المقدمة
يُعَدُّ كتاب نهج البلاغة من أبرز المصادر التي يعتمد عليها الشيعة الإمامية في نسبة الخطب والرسائل إلى الإمام عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ومن بين النصوص التي وردت فيه رواية مشهورة تُشير إلى أن عليًّا رضي الله عنه أوصى أتباعه بالسبِّ عند الإكراه، والنهي عن البراءة منه. غير أن هذه الرواية أثارت جدلاً واسعًا بين علماء الشيعة أنفسهم، حيث حكم بعضهم عليها بالكذب، وأكّد آخرون أنّها محرفة أو منقوصة. وهذا المقال يسلط الضوء على أصل الرواية في نهج البلاغة، ثم يعرض مواقف علماء الشيعة الذين نفوا صحتها أو أولوا مضمونها، ليظهر التناقض بين ما ينسبونه لعليّ رضي الله عنه في كتبهم وما يقرونه في كتب العقائد والفقه.
نص الرواية في نهج البلاغة
جاء في نهج البلاغة ما نصه:
"أَمَا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ، يَأْكُلُ مَا يَجِدُ، وَيَطْلُبُ مَا لَا يَجِدُ، فَاقْتُلُوهُ، وَلَنْ تَقْتُلُوهُ! أَلَا وَإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنِّي؛ فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي، فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ، وَلَكُمْ نَجَاةٌ؛ وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَا تَتَبَرَّؤُوا مِنِّي، فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَسَبَقْتُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ."
(نهج البلاغة – الشريف الرضي – ج 1 ص 105 – 106).
تكذيب الرواية في مصادر الشيعة:
غير أن علماء الشيعة أنفسهم ناقضوا ما ورد في نهج البلاغة، حيث ورد عن الإمام جعفر الصادق تكذيب صريح لهذه الرواية:
مقالات السقيفة ذات صلة |
رواية "وإنه لذكر لك ولقومك" بين القبول والرد لا تعلّموا نساءكم سورة يوسف ولا تقرئوهنّ إياها شبهات حديث: "صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن" |
♦ قال الأنصاري:
فَفِي مُوَثَّقَةِ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ: قُلتُ لِأَبِي عَبدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلام: إِنَّ النَّاسَ يَروُونَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيهِ السَّلام قَالَ عَلَى مِنبَرِ الكُوفَةِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُم سَتُدعَونَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي، ثُمَّ تُدعَونَ إِلَى البَرَاءَةِ فَلَا تَتَبَرَّؤُوا مِنِّي، فَقَالَ عَلَيهِ السَّلام: "مَا أَكثَرَ مَا يَكذِبُ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيهِ السَّلام، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا قَالَ: سَتُدعَونَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي، ثُمَّ تُدعَونَ إِلَى البَرَاءَةِ مِنِّي وَإِنِّي لَعَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم، وَلَم يَقُل: لَا تَبَرَّؤُوا مِنِّي".
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: أَرَأَيتَ إِنِ اختَارَ القَتلَ دُونَ البَرَاءَةِ؟
فَقَالَ: "وَاللهِ مَا ذَاكَ عَلَيهِ وَلَا لَهُ، إِلَّا مَا مَضَى عَلَيهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ حَيثُ أَكرَهَهُ أَهلُ مَكَّةَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ، فَأَنزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِلَّا مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عِندَهَا: يَا عَمَّارُ إِنْ عَادُوا فَعُدْ". اهـ
التَّقِيَّة – الأَنصَارِي – ص 67
♦ وَلَقَدِ اسْتَشْهَدَ جَعْفَرُ السُّبْحَانِي بِالرِّوَايَةِ وَجَعَلَهَا مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، حَيْثُ قَالَ:
"4- رَوَى مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ، قَالَ: قِيلَ لِأَبِي عَبدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلام: إِنَّ النَّاسَ يَروُونَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيهِ السَّلام قَالَ عَلَى مِنبَرِ الكُوفَةِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُم سَتُدعَونَ إِلَى سَبِّي، ثُمَّ تُدعَونَ إِلَى البَرَاءَةِ مِنِّي، فَلَا تَبَرَّؤُوا مِنِّي، فَقَالَ الإِمَامُ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلام: (مَا أَكثَرَ مَا يَكذِبُ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيهِ السَّلام). ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا قَالَ: إِنَّكُم سَتُدعَونَ إِلَى سَبِّي، فَسُبُّونِي، ثُمَّ تُدعَونَ إِلَى البَرَاءَةِ مِنِّي، وَإِنِّي لَعَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم، وَلَم يَقُل: وَلَا تَبَرَّؤُوا مِنِّي).
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: أَرَأَيتَ إِنِ اختَارَ القَتلَ دُونَ البَرَاءَةِ؟
قَالَ: (وَاللهِ مَا ذَلِكَ عَلَيهِ، وَمَا لَهُ إِلَّا مَا مَضَى عَلَيهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، حَيثُ أَكرَهَهُ أَهلُ مَكَّةَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ، فَأَنزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِلَّا مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عِندَهَا: يَا عَمَّارُ، إِنْ عَادُوا فَعُدْ، فَقَد أَنزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عُذرَكَ ﴿إِلَّا مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾، وَآمَرَكَ أَن تَعُودَ إِنْ عَادُوا).
تَرَى أَنَّ الإِمَامَ يُرْجِعُ الحَدِيثَ إِلَى الآيَةِ، وَيَقْضِي بِهَا فِي حَقِّهِ، وَأَنَّهُ كَيفَ لَا يَجُوزُ البَرَاءَةُ مَعَ أَنَّ عَمَّارًا – حَسَبَ الرِّوَايَةِ، وَظُهُورِ الآيَةِ – تَبَرَّأَ مِنَ النَّبِيِّ، وَلَم يَكُنْ عَلَيهِ شَيءٌ. قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿إِلَّا مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾.
وَأَئِمَّةُ الشِّيَعَةِ – مَعَ شِدَّةِ تَركِيزِهِمْ عَلَى هَذَا المَوقِفِ، مِن إِرجَاعِ الأَحَادِيثِ المَشكُوكَةِ إِلَى القُرْآنِ، فَمَا خَالَفَ مِنْهَا القُرْآنَ يُضرَبُ عَرضَ الجِدَارِ – قَامُوا بِتَطْبِيقِ هَذَا المَبدَإِ عَملِيًّا فِي غَيرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي لَا يَسَعُ المَقَامَ ذِكرُهَا". اهـ
(مفاهيم القرآن – جعفر السبحاني – ج 10 ص 332).
الخلاصة
يتضح من خلال هذه النصوص أن هناك تناقضًا صريحًا بين ما يورده نهج البلاغة وما تقرره مصادر الشيعة الأخرى. فبينما يظهر في نهج البلاغة أن الإمام عليًّا رضي الله عنه نهى عن البراءة مطلقًا، نجد روايات أخرى تكذّب هذا النقل وتنسبه إلى الكذب على الإمام، بل وتسوغ للشيعة البراءة عند الإكراه استنادًا لقصة عمار بن ياسر رضي الله عنه. وهذا التناقض يُظهر بوضوح اضطراب الروايات المنسوبة إلى الإمام عليّ رضي الله عنه في كتب الشيعة.