من المسائل التي أثارت اهتمام العلماء والمحدثين على مر العصور، ما ورد عن الإمام محمد بن سيرين رحمه الله في شأن المهدي المنتظر، حيث نُقل عنه قولان ظاهرهما يوحيان بتفضيل المهدي على الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد استغل بعض الغلاة هذه الأقوال للطعن في ترتيب الفضل بين الصحابة، بينما سعى العلماء المحققون إلى تحقيق الروايات وتأويلها على وجهٍ صحيح، ينسجم مع ما أجمعت عليه الأمة من تفضيل أبي بكر ثم عمر على سائر الصحابة.
ويُظهر التحقيق أن هذه الأقوال لا يراد بها التفضيل في المنزلة والقدر، وإنما المقصود بها العدل في الحكم وشدة الفتن في زمن المهدي، وهو ما نص عليه كبار المحدثين كالسيوطي والدارقطني وغيرهما.
في هذا المقال، نعرض الروايات المنقولة عن ابن سيرين، مع مناقشة أسانيدها، وأقوال أهل العلم في تأويلها، لنصل إلى الفهم الصحيح المتوافق مع العقيدة السليمة وإجماع الأمة.
الروايات الواردة عن ابن سيرين: |
1) الرواية الأولى:
قال ابن سيرين: «أن المهدي خير من أبي بكر وعمر، قد كان يُفضل على بعض الأنبياء».
وقد أوردها الشيخ أحمد عبد العال الطهطاوي في كتابه التقاء المسيحين في آخر الزمان (صـ102) عن ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح.
2) الرواية الثانية:
قال أيضًا: «يكون في هذه الأمة خليفة لا يُفضل عليه أبو بكر ولا عمر» — رواه ابن أبي شيبة في المصنف (حديث رقم 37650) بإسناد صحيح.
3) الرواية الثالثة:
عن ضمرة، عن ابن شوذب، عن محمد بن سيرين، أنه ذكر فتنة تكون فقال:
«إذا كان ذلك فاجلسوا في بيوتكم حتى تسمعوا على الناس بخيرٍ من أبي بكر وعمر».
قيل: يا أبا بكر، خير من أبي بكر وعمر؟
قال: «قد كان يُفضل على بعض الأنبياء».
رواه نعيم بن حماد في الفتن (ص 221).
وقد قال الدارقطني في تفسير قوله: «لا يُفضل عليه أبو بكر ولا عمر»:
«يعني في العدل».
(العلل الواردة في الحديث 10/38 رقم 1083).
وهذا التفسير هو ما رجّحه السيوطي رحمه الله في العرف الوردي في أخبار المهدي، فقال:
«قلت: في هذا ما فيه... والأوجه عندي تأويل اللفظين على ما أُول عليه حديث (بل أجر خمسين منكم)، لشدة الفتن في زمان المهدي وتمالؤ الروم بأسرها عليه ومحاصرة الدجال له، وليس المراد بهذا التفضيل، والراجع إلى زيادة الثواب والرفعة عند الله، فالأحاديث الصحيحة والإجماع على أن أبا بكر وعمر أفضل الخلق بعد النبيين والمرسلين».
تحقيق الروايات ومناقشة الأسانيد: |
رواية نعيم بن حماد فيها زيادة: «قد كان يفضل على بعض الأنبياء»، وهي زيادة منكرة.
قال الإمام النووي في الأربعين: «نعيم بن حماد ذو مناكير».
الروايات الواردة عن ابن سيرين: |
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/600):
«ولا تركن النفس إلى رواياته»، أي لا يُعتمد على ما تفرد به.
أما رواية ابن أبي شيبة فهي أجود إسنادًا، وفيها قول ابن سيرين:
«يكون في هذه الأمة خليفة لا يُفضل عليه أبو بكر ولا عمر».
وهذه الرواية هي الأصح، ومحمولة على معنى العدل في الحكم لا الفضل في المنزلة.
كما أن رواية نعيم بن حماد تضمنت زيادة تفرد بها دون غيره، مما يجعلها شاذة لا تثبت، خاصة مع مخالفتها لما عليه إجماع الأمة من تفضيل أبي بكر وعمر على سائر الأمة بعد الأنبياء.
الروايات الواردة عن ابن سيرين: |
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق (62/161):
«كان نعيم يحدث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها، وسمعت يحيى بن معين يسأل عنه فقال: ليس في الحديث بشيء، ولكنه كان صاحب سنة».
الرد على توهم التفضيل: |
قال الإمام السفاريني في لوامع الأنوار البهية (2/85):
«وجاء عن ابن سيرين أن المهدي خير من أبي بكر وعمر، قد كاد يفضل على الأنبياء، وجاء عنه أيضًا لا يفضل عليه أبو بكر ولا عمر، وهو وإن كان أخف من الأول فليس بصحيح، فإن الأمة مجتمعة على أفضليتهما عليه، بل وعلى جميع الصحابة، خلافًا للرافضة، بل غيرهما من الصحابة أفضل من المهدي».
وهذا نص واضح في رد تفضيل المهدي على الصحابة، وأن ما ورد عن ابن سيرين إما غير ثابت أو مؤول بمعنى العدل وكثرة الأجر في زمن الفتن.
كما قال السيوطي:
«المقصود بالقول أن المهدي يعدل في زمانه كما عدل أبو بكر وعمر في زمانهما، لا أن الفضل بينهما سواء».
التأويل الصحيح لكلام ابن سيرين: |
يرى جمهور العلماء أن كلام ابن سيرين محمول على أن المهدي سيكون عادلاً في حكمه، حتى إن الناس لا يجدون فرقًا في عدله بينه وبين الشيخين، كما أن شدة الفتن في زمانه تجعل أجر المتمسك بالدين عظيمًا، فيكون قوله "خير من أبي بكر وعمر" من حيث الثواب والمجاهدة في زمن الفتنة، لا من حيث الفضل المطلق.
كما قال النبي ﷺ: «للعامل فيهن أجر خمسين منكم»، قيل: منهم يا رسول الله؟ قال: «بل منكم» رواه أبو داود (4341) والترمذي (3058) وصححه الألباني.
فهذا الحديث دليل على أن عِظَم الأجر في زمن الفتن لا يعني تفضيلاً في المنزلة، وإنما زيادة في الثواب لشدة الابتلاء.
الخلاصة: |
♦ إن الروايات التي تُروى عن ابن سيرين في تفضيل المهدي على أبي بكر وعمر لا تصح إسنادًا أو مؤوَّلة معنى.
♦ أصح الروايات تُحمل على العدل والثواب لا على الفضل.
♦ أجمع أهل السنة على أن أبا بكر ثم عمر هما أفضل الأمة بعد الأنبياء.
♦ المهدي المنتظر رجل صالح عادل، من آل بيت النبي ﷺ، يُقيم العدل في آخر الزمان، لكنه لا يساوي الصحابة فضلًا ولا منزلة.