مقدمة: مكانة النبي ﷺ وتعظيمه المشروع

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

جديد مقالات الثقيفة:

التقية عند الرافضة دين ومعتقد

الخضر عند الصوفية: غلوّ في الأولياء وعقائد باطنية منحرفة

مصادر الشيعة الإثني عشرية

كيف أصبحت الإثنا عشرية منبعاً لفرق الغلو والزندقة؟

قم.. المدينة المقدسة عند الشيعية الصفوية

تاريخ الفرق الإسلامية وغلاة الشيعة الإثنا عشرية

 

أمَّا بعد:

إن الإيمان بمكانة النبي محمد ﷺ ومنزلته الرفيعة هو جزء لا يتجزأ من عقيدة كل مسلم. فهو سيد الخلق أجمعين، وإمام المرسلين، وحبيب رب العالمين الذي ختم الله به الرسالات، وأتم به النعمة على العباد. وقد أوجب الله على الأمة محبته وتوقيره، واقتفاء أثره، والاهتداء بنوره، فهو الطريق إلى رضوان الله وجنته.

وتتواتر الأدلة من السنة النبوية المطهرة على تفضيله ﷺ على سائر الخلائق.

 ومن أبرز هذه الفضائل:

سيادته على ولد آدم:

 فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) [رواه مسلم].

صاحب لواء الحمد:

 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: ﴿أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلاَّ تَحْتَ لِوَائِي [رواه الترمذي وابن ماجه].

إمام النبيين وخطيبهم:

وعن أُبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ﴿إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كُنْتُ إِمَامَ النَّبِيِّينَ وَخَطِيبَهُمْ، وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ، غَيْرَ فَخْرٍ﴾ [رواه الترمذي وابن ماجه].

صاحب الوسيلة: 

وهي أعلى درجة في الجنة، حيث قال ﷺ: (سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ) [رواه مسلم].

صاحب الحوض الأكبر:

 حيث يتباهى الأنبياء بكثرة أتباعهم، وقد قال ﷺ: )إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً( [رواه الترمذي].

إن فضائل نبينا ﷺ لا يمكن حصرها، ومكانته لا تحدها حدود. ولكن مع هذا الإجلال والتعظيم، نحن مأمورون بأن يكون حبنا له منضبطاً بضوابط الشرع، فلا نقول فيه إلا ما يرضي الله تعالى ويرضيه هو ﷺ.

التحذير النبوي من الغلو والإطراء

لقد وضع النبي ﷺ بنفسه حدوداً واضحة لمحبتنا له، محذراً أمته من الوقوع في فخ الغلو الذي وقعت فيه الأمم السابقة. فقال في حديثه الشهير: (لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) [رواه البخاري]. وكما يوضح الإمام ابن الجوزي رحمه الله، فإن الإطراء المنهي عنه هو "الإفراط في المدح" و"المدح الباطل"، فالنصارى غلوا في عيسى عليه السلام حتى ادعوا أنه ابن الله وجعلوه إلهاً.

وفي موقف آخر، عندما خاطبه رجل قائلاً: "يَا مُحَمَّدُ! يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا! وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا!"، كان جوابه ﷺ حاسماً ومنهجياً: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ، وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي التِّي أَنْزَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ) [رواه أحمد وصححه الألباني].

من هنا يتضح أن دين الله وسط بين طرفين: الغلو والجفاء. فاليهود جفوا عن أنبيائهم حتى قتلوهم، والنصارى غلوا فيهم حتى عبدوهم، أما الأمة الوسط، أهل السنة والجماعة، فقد عرفوا للأنبياء قدرهم، فأحبوهم وعظموهم دون أن يرفعوهم فوق منزلة العبودية والرسالة.

إذن، فالمحبة الحقيقية والتعظيم المشروع لرسول الله ﷺ يرتكز على أمرين أساسيين:

1-   اتباع هديه واقتفاء أثره ونشر سنته.

2-   محبة وتعظيم شخصه وفق المنهج الذي رسمه هو بنفسه.

وللأسف، فقد خرجت بعض الفرق، ومنها الصوفية، عن هذا المنهج القويم، ووقعت في محظور الغلو الذي نهى عنه النبي ﷺ.

المظهر الأول: التوسل غير المشروع بالنبي ﷺ

من أبرز مظاهر الغلو التي وقعت فيها الصوفية، بدافع ما يظنونه محبة وتعظيماً، هو ابتداعهم للتوسل غير المشروع بالنبي ﷺ. وهذا التوسل يتخذ صوراً متعددة، ويفتح الباب على مصراعيه للشرك بالأولياء والصالحين تحت نفس المسمى.

وينقسم هذا التوسل المبتدع إلى نوعين رئيسيين:

القسم الأول: التوسل البدعي

وهو التوسل الذي لم يرد به دليل شرعي، ولم يفعله النبي ﷺ ولا صحابته الكرام، ومن صوره:

التوسل بذات النبي: كأن يقول الداعي: "اللهم إني أتوسل إليك بنبيك".

التوسل بجاه النبي: كأن يقول: "اللهم بجاه نبيك اغفر لي".

الإقسام على الله بالنبي: كأن يقول: "اللهم بحق نبيك اشفني".

لماذا هو بدعة؟ لأن العبادات توقيفية، أي لا يجوز إحداث عبادة أو طريقة للتقرب إلى الله لم يشرعها الله ورسوله. وهذا النوع من التوسل لم يرد في الكتاب أو السنة، ولم يأمر به النبي ﷺ، ولم يفعله الصحابة لا في حياته ولا بعد مماته. بل الثابت عنهم هو العدول عنه إلى التوسل المشروع، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في عام الرمادة. فالأنبياء لهم جاه عظيم عند الله، لكن الله لم يجعل هذا الجاه وسيلة مشروعة لإجابة الدعاء، بل جعل الوسيلة هي الإيمان بهم ومحبتهم وطاعتهم.

القسم الثاني: التوسل الشركي

وهذا هو الأخطر، حيث يتجاوز الأمر حدود البدعة ليصل إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة. ويتمثل في:

طلب الحاجات من النبي ﷺ مباشرة: كطلب كشف الضر، أو جلب النفع، أو الشفاء.

الاستغاثة به ودعاؤه من دون الله.

بث الشكوى إليه وطلب المدد منه.

إن طلب ما لا يقدر عليه إلا الله من مخلوق، سواء كان نبياً أو ولياً، هو شرك أكبر. فإذا كان هذا شركاً في حياته ﷺ، فكيف بمن يفعله بعد موته؟ وقد وصل الغلو ببعضهم، مثل الشاعر الصوفي البرعي، إلى أن ينظم قصائد يخاطب فيها النبي ﷺ قائلاً:

يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ الْمُنِيرِ بِيَثْرِبٍ... يَا مُنْتَهَى أَمَلِي وَغَايَةَ مَطْلَبِي

يَا مَنْ بِهِ النَّائِبَاتُ تَوَسُّلِي... وَإِلَيْهِ مِنْ كُلِّ الْحَوَادِثِ مَهْرَبِي

يَا غَوْثَ مَنْ فِي الْخَافِقَيْنِ وَغَيْثَهُمْ... وَرَبِيعَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ مُجْدِبِ

وهذا دعاء صريح واستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق سبحانه وتعالى.

المظهر الثاني: ادعاء رؤية النبي ﷺ يقظة

من البدع الخطيرة التي أسست عليها بعض الطرق الصوفية (كالتيجانية والأحمدية الإدريسية) بنيانها، هي اعتقادهم بأن النبي ﷺ حي في قبره حياة دنيوية كاملة، وأنه يخرج من قبره ويجتمع بهم يقظة لا مناماً. ويزعمون أنه يحضر "الحضرات" والموالد التي يقيمونها، ويرشدهم في أمور طريقتهم.

ولكي يمرروا هذه الخرافة على أتباعهم، يدّعون أن رؤيته ﷺ مقصورة على "الكُمَّل" من الأولياء، أما المنكرون فهم "محجوبون" عن هذا الشرف. وهذا يشبه تماماً عقيدة "القطب الصوفي" الغائب، وعقيدة الرافضة في "الإمام المنتظر".

وقد فند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الادعاءات، مبيناً أنها من تلبيس الشيطان وتزيينه.

 يقول رحمه الله:

"وَالضُّلَّالُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ: إمَّا النَّبِيُّ ﷺ وَإِمَّا غَيْرُهُ... يَقَظَةً، وَيُخَاطِبُهُمْ وَيُخَاطِبُونَهُ... وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ بِحَسَبِ قِلَّةِ عِلْمِ الرَّجُلِ يُضِلُّهُ الشَّيْطَانُ... وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ: إنَّ الْخَضِرَ أَتَاهُ... وَلا أَنَّهُ سَمِعَ رَدَّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَيْهِ. وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ - إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ - وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّهُ يَسْمَعُ الرَّدَّ. وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ قَلَّ عِلْمُهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ، فَأَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ".

إن هذا الادعاء باطل من أساسه، فلو كان خيراً لسبق إليه أفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم الصحابة الكرام، الذين كانوا أشد الناس حباً لرسول الله ﷺ، ولكن لم يُنقل عن واحد منهم أنه رآه يقظة بعد موته.

الخاتمة: خطر هجر السنة

إن السبب الرئيسي وراء تمكن الشيطان من إضلال هؤلاء بمثل هذه الخرافات هو هجرهم للسنة النبوية وقلة بضاعتهم من العلم الشرعي. فلو تحصنوا بعلم التوحيد، وتسلحوا بدروع السنة، لما وجد الشيطان إليهم سبيلاً. وهنا تتجلى أهمية التمسك بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فهو الحصن الحصين من كل بدعة وضلالة.

المصادر:

•  القرآن الكريم.

صحيح البخاري وصحيح مسلم.

•  سنن الترمذي وسنن ابن ماجه ومسند الإمام أحمد.

•  ابن تيمية، "مجموع الفتاوى"، و"قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"، و"اقتضاء الصراط المستقيم".

•  ابن الجوزي، "كشف المشكل من حديث الصحيحين".

•  الزركلي، "الأعلام".

•  عبد الرحمن بن صالح المحمود، "محبة الرسول بين الاتباع والابتداع".

•  محمد سعيد كمال، "شرح ديوان البرعي".

•  كتب التراجم والفهرسة لتخريج الأحاديث والآثار.