آراء الفقهاء في رضاع الكبير

رأي فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

يرى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين أن مسألة خصوصية وصف الرضاع للكبير هي مسألة قريبة من حيث الحكم، وقد أيّد هذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية. ويوضح ابن عثيمين أن الرضاع إذا كان القصد منه التغذية، فإنه لا يكون مؤثرًا إلا إذا وقع في فترة الرضاعة الشرعية، أي خلال الحولين الأولين من عمر الطفل.

أما إذا كان القصد من الرضاع هو دفع الحاجة، فقد أجاز ابن تيمية ذلك حتى لو كان الرضيع كبيرًا.

ومع ذلك، يرى ابن عثيمين أن هذا القول ضعيف، وأن رضاع الكبير لا يؤثر في إثبات المحرمية مطلقًا، إلا في حالات نادرة جدًا تشبه حالة سالم مولى أبي حذيفة من جميع الوجوه [الشرح الممتع على زاد المستقنع ج 13 ص 435].

ويستطرد ابن عثيمين في مناقشة رأي بعض العلماء الذين يرون أن مطلق الحاجة تبيح رضاع الكبير، وأن المرأة إذا احتاجت إلى إرضاع رجل كبير، فإن هذا الإرضاع يجعله ابنًا لها من الرضاعة. إلا أنه يعارض هذا الرأي بشدة، مؤكدًا أن الحاجة التي تبيح رضاع الكبير ليست مطلقة، بل هي الحاجة الموازية تمامًا لقصة سالم مولى أبي حذيفة. ويشير إلى أن هذه الحاجة الموازية أصبحت غير ممكنة في عصرنا بعد إبطال التبني في الشريعة الإسلامية. وبناءً على ذلك، يخلص ابن عثيمين إلى أنه بعد انتهاء حكم التبني، لا يجوز إرضاع الكبير، ولا يترتب على إرضاع الكبير أي أثر شرعي في إثبات المحرمية. ويؤكد أن الرضاع المؤثر شرعًا لا بد أن يكون في الحولين الأولين من عمر الطفل، أو قبل الفطام، وهذا هو الرأي الراجح لديه [الشرح الممتع على زاد المستقنع ج 13 ص 435].

رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

يُعد شيخ الإسلام ابن تيمية من أبرز العلماء الذين تناولوا مسألة رضاع الكبير، وقد استند في رأيه إلى حديث سهلة بنت سهيل مع سالم مولى أبي حذيفة. يذكر ابن تيمية أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أخذت بهذا الحديث، بينما رفضت غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ به. ورغم أن عائشة روت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "{الرضاعة من المجاعة}"، إلا أنها رأت فرقًا جوهريًا بين أن يكون القصد من الرضاعة هو إثبات المحرمية أو التغذية. فإذا كان القصد هو التغذية، فإن الرضاع لا يحرم إلا ما كان قبل الفطام، وهذا هو الرضاع المتعارف عليه بين عامة الناس [مجموع الفتاوى ج 34 ص 59].

أما إذا كان القصد من الرضاع هو إثبات المحرمية للحاجة، فإن ابن تيمية يرى جواز ذلك، خاصة إذا دعت الحاجة إلى جعل الشخص ذا محرم، كما في حالة سالم مولى أبي حذيفة الذي كان يدخل على سهلة بنت سهيل ويشق عليها الاحتجاب منه. ويؤكد ابن تيمية أن الحاجة قد تبيح ما لا يجوز في غيرها من الأحوال، ويعتبر هذا القول "متوجهًا"، أي له وجاهته وقوته في الاستدلال [مجموع الفتاوى ج 34 ص 59].

رأي الإمام الصنعاني رحمه الله:

يُقدم الإمام الصنعاني في كتابه "سبل السلام" جمعًا بديعًا بين حديث سهلة بنت سهيل وما عارضه من أحاديث أخرى، معتبرًا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هو الأجمل في هذا الجمع. يرى الصنعاني أن ابن تيمية قد وفق في التوفيق بين الأحاديث، حيث اعتبر الصغر شرطًا في الرضاعة المؤثرة، إلا في حالة الضرورة والحاجة الملحة. هذه الحاجة تتمثل في رضاع الكبير الذي لا يمكن الاستغناء عن دخوله على المرأة، ويشق عليها الاحتجاب منه، تمامًا كما كانت حال سالم مولى أبي حذيفة مع زوجة أبي حذيفة [سبل السلام ج 2 ص 313].

ويوضح الصنعاني أن مثل هذا الكبير، إذا أرضعته المرأة للحاجة، فإن رضاعه يؤثر في إثبات المحرمية. أما من عدا هذه الحالة الاستثنائية، فلا بد أن يكون الرضاع في الصغر ليترتب عليه حكم التحريم. ويُثني الصنعاني على هذا الجمع الذي قدمه ابن تيمية، معتبرًا إياه جمعًا حسنًا يعمل بجميع الأحاديث دون مخالفة لظاهرها باختصاص، أو نسخ، أو إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت عليه الأحاديث النبوية [سبل السلام ج 2 ص 313].

رأي الإمام ابن القيم رحمه الله

يؤيد الإمام ابن القيم الجوزية التوفيق الذي قدمه شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة رضاع الكبير، ويرى أن هذا التوفيق أولى من القول بالنسخ أو دعوى التخصيص بشخص بعينه (سالم مولى أبي حذيفة). فابن القيم يرى أن هذا الجمع بين الأحاديث المختلفة في المسألة أقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، أي الأحاديث التي تشترط الصغر في الرضاع والأحاديث التي قد يُفهم منها جواز رضاع الكبير للحاجة [زاد المعاد ج 5 ص 593].

ويؤكد ابن القيم أن قواعد الشرع العامة تشهد لهذا التوفيق، مما يعطي قوة إضافية للقول الذي يجمع بين النصوص الشرعية المختلفة دون إبطال لأي منها. وهذا يدل على منهجه في الجمع بين الأدلة الشرعية ما أمكن، وتقديم الحلول التي تتوافق مع مقاصد الشريعة وقواعدها العامة [زاد المعاد ج 5 ص 593].

الشبهة والجواب المفصل

الشبهة

تكمن الشبهة الرئيسية في مسألة رضاع الكبير في التعارض الظاهري بين النصوص الشرعية العامة التي تحدد الرضاع المؤثر في إثبات المحرمية بأنه ما كان في الصغر، وتحديدًا في الحولين الأولين من عمر الطفل، وبين الحالة الخاصة التي وردت في حديث سهلة بنت سهيل مع سالم مولى أبي حذيفة. ففي هذه الحالة، أذن النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بإرضاع سالم وهو كبير، لكي يصبح محرمًا لها، وذلك لحاجتها لدخوله عليها. هذا الظاهر قد يوحي بأن رضاع الكبير يمكن أن يؤثر في إثبات المحرمية إذا دعت الحاجة، مما يتعارض مع القاعدة العامة.

الجواب المفصل

للإجابة على هذه الشبهة، يتناول العلماء عدة أوجه للتوفيق بين هذه النصوص، معتمدين على فهم عميق لمقاصد الشريعة وقواعدها:

الفرق بين القصد من الرضاع (التغذية مقابل دفع الحاجة):

كما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن هناك فرقًا جوهريًا بين الرضاع الذي يقصد به التغذية، وهذا هو الرضاع الذي يحرم ويؤثر في المحرمية إذا كان قبل الفطام وفي الصغر، وبين الرضاع الذي يقصد به دفع حاجة معينة وإثبات المحرمية. ففي حالة سالم، لم يكن القصد التغذية، بل كان القصد إثبات المحرمية لحاجة ماسة وهي دخول سالم على سهلة دون حرج [مجموع الفتاوى ج 34 ص 59].

خصوصية حالة سالم:

يرى كثير من العلماء، وعلى رأسهم ابن عثيمين، أن حالة سالم مولى أبي حذيفة كانت حالة خاصة جدًا، ولا يمكن القياس عليها بإطلاق. فابن عثيمين يرى أن رضاع الكبير لا يؤثر مطلقًا إلا إذا وجدت حالة تشبه حال أبي حذيفة وسالم من كل وجه، وهي حالة نادرة جدًا وغير متكررة. ويؤكد أن الحاجة التي تبيح رضاع الكبير ليست مطلقة، بل هي الحاجة الموازية لقصة سالم، والتي أصبحت غير ممكنة بعد إبطال التبني في الشريعة الإسلامية. فبما أن التبني قد أُبطل، وانتفت الحال التي كانت عليها قصة سالم (حيث كان سالم يُعد ابنًا بالتبني قبل إبطاله)، فإن الحكم ينتفي بانتفاء علته [الشرح الممتع على زاد المستقنع ج 13 ص 435].

 الجمع بين الأحاديث:

 يرى الإمام الصنعاني وابن القيم أن التوفيق الذي قدمه ابن تيمية هو الأجمل والأولى، حيث يجمع بين الأحاديث دون الحاجة إلى القول بالنسخ أو التخصيص المطلق. هذا التوفيق يقوم على اعتبار الصغر شرطًا في الرضاعة المؤثرة، إلا في حالات الحاجة الملحة والضرورية التي تشبه حالة سالم، حيث لا يمكن الاستغناء عن دخول الرجل على المرأة ويشق عليها الاحتجاب منه. هذا الجمع يعمل بجميع الأحاديث ويوافق قواعد الشرع العامة [سبل السلام ج 2 ص 313، زاد المعاد ج 5 ص 593].

الخلاصة:

 إن رضاع الكبير لا يؤثر في إثبات المحرمية في عموم الأحوال، وأن الحالة الاستثنائية لسالم مولى أبي حذيفة كانت لحاجة خاصة جدًا في سياق معين (قبل إبطال التبني)، ولا يمكن تعميمها. فالرضاع المؤثر شرعًا هو ما كان في الحولين الأولين أو قبل الفطام، وهو ما يحقق مقصد الشريعة في إثبات المحرمية من الرضاع كالمحرمية من النسب.

المصادر

1-ابن عثيمين، محمد بن صالح. الشرح الممتع على زاد المستقنع. ج 13، ص 435.

2-ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم. مجموع الفتاوى. ج 34، ص 59.

3-الصنعاني، محمد بن إسماعيل. سبل السلام. ج 2، ص 313.

4-ابن القيم الجوزية، محمد بن أبي بكر. زاد المعاد في هدي خير العباد. ج 5، ص 593.