مقدمة
تُعد مسألة الرضاع في الفقه الإسلامي من القضايا المحورية التي تُبنى عليها أحكام شرعية عديدة، أبرزها تحريم النكاح. وبينما يتفق الفقهاء على أن الرضاع في الصغر يُحرم ما يُحرمه النسب، فإن مسألة "رضاع الكبير" قد أثارت جدلاً واسعاً عبر العصور.
فهل يُحرم إرضاع الكبير النكاح كما يُحرمه رضاع الصغير؟ وما هي الشروط والضوابط التي تحكم هذه المسألة؟
يستعرض هذا المقال آراء المذاهب الفقهية المختلفة، ويُسلط الضوء على أبرز الشبهات المثارة حولها، مقدماً تحليلاً معمقاً ومفصلاً لهذه القضية الفقهية الشائكة، معتمداً على الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال كبار العلماء.
جوهر المسألة: رضاع الكبير وتأثيره على التحريم
تتمحور قضية رضاع الكبير حول ما إذا كان إرضاع شخص بالغ من امرأة أجنبية يُنشئ علاقة محرمية تُحرم الزواج بينهما، أسوةً بالرضاع في فترة الطفولة. يرى جمهور الفقهاء أن الرضاع المحرِّم هو ما كان في فترة الحولين الأولين من عمر الطفل، وهي الفترة التي يكون فيها اللبن غذاءً أساسياً يُفتق به الأمعاء ويُبنى عليه اللحم والعظم. يستندون في ذلك إلى أحاديث نبوية صريحة وآيات قرآنية تُحدد مدة الرضاع.
رأي الجمهور وأدلته
ذهب جمهور الفقهاء، ومنهم الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، إلى أن الرضاع الذي يُحرم النكاح هو ما وقع في الصغر، وتحديداً خلال الحولين الأولين من عمر الرضيع. يستدلون على ذلك بعدة أدلة:
♦ القرآن الكريم:
قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: 233]. تُشير هذه الآية إلى أن تمام الرضاعة يكون بحولين كاملين، مما يُفهم منه أن هذه هي المدة المعتبرة شرعاً للرضاع الذي يُنشئ المحرمية. فما زاد على هذه المدة لا يُحتاج إليه عادةً لغذاء الطفل، وبالتالي لا يُعتبر شرعاً في إثبات المحرمية، إذ لا حكم للشيء النادر أو غير المعتاد في هذا السياق.
♦ الحديث النبوي:
حديث أم سلمة رضي الله عنها: "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام" [1]. هذا الحديث صريح في أن الرضاع المحرِّم هو الذي يُشبع الرضيع ويُغذيه، ويكون ذلك قبل فطامه، أي قبل أن يستغني عن اللبن بالطعام. ويُعضد هذا المعنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور في سياق المقال، والذي يُشير إلى نفس المفهوم. وقد صحح هذا الحديث الترمذي وابن حبان، مما يُعطيه قوة في الاستدلال.
♦ المعنى اللغوي والشرعي للرضاع:
الرضاع في اللغة والشرع هو تغذية الطفل باللبن لينمو ويشتد عوده. وهذا المعنى لا يتحقق في حق الكبير، فالكبير لا ينمو جسمه ولا يتغذى على اللبن بنفس الطريقة التي يتغذى بها الصغير، ولا يُفتق أمعاؤه به. وبالتالي، فإن إرضاع الكبير لا يُحقق العلة الشرعية من الرضاع المحرِّم، وهي كونه سبباً في بناء الجسم وتكوين القرابة.
♦ صيانة الأعراض:
يرى الجمهور أن اعتبار رضاع الكبير مُحرمًا يُفضي إلى انتهاك حرمة المرأة واطلاع الأجنبي على عورتها، ولو بمجرد التقام الثدي، وهو ما يتنافى مع مقاصد الشريعة في حفظ الأعراض وسد الذرائع. وهذا الرأي يُشير إلى أن الشريعة جاءت لحفظ الضروريات الخمس، ومنها حفظ النسل والعرض، واعتبار رضاع الكبير يُخالف هذا المقصد العام.
رأي المخالفين وقصة سالم مولى أبي حذيفة
على النقيض من رأي الجمهور، ذهبت قلة من العلماء، وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وداود الظاهري، والليث بن سعد، وابن حزم الظاهري، إلى أن رضاع الكبير يُحرم النكاح. وقد استدلوا في ذلك بقصة سالم مولى أبي حذيفة، وهي قصة مشهورة في كتب السنة:
كان سالم مولى أبي حذيفة قد تبناه أبو حذيفة وزوجته سهلة بنت سهيل قبل تحريم التبني في الإسلام. فلما نزل حكم تحريم التبني، وشق ذلك على سهلة أن يدخل عليها سالم وهو ليس ابنها شرعاً، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: "يا رسول الله، إن سالماً قد بلغ ما بلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً". فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه تحرمي عليه" [2]. فقامت سهلة بإرضاع سالم، فصار محرماً عليها.
استدلت عائشة رضي الله عنها بهذه القصة على أن رضاع الكبير يُحرم، وكانت تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يُرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها من الرجال الكبار، خمس رضعات، ثم يدخل عليها [3]. وقد نقل النووي وابن الصباغ وغيرهما هذا القول عن داود الظاهري، ومَالَ إليه ابن المواّز من المالكية.
الشبهات المثارة حول رضاع الكبير وأجوبتها
تُعد مسألة رضاع الكبير من أكثر المسائل الفقهية التي أُثيرت حولها الشبهات، نظراً لتعارضها الظاهري مع القواعد العامة للرضاع في الإسلام. وفيما يلي عرض لأبرز هذه الشبهات والأجوبة الفقهية عليها:
الشبهة الأولى: شذوذ قول ابن حزم في مس الثدي
الشبهة:
استدل ابن حزم الظاهري بقصة سالم على جواز مس الأجنبي ثدي الأجنبية والتقام ثديها إذا أراد أن يرتضع منها مطلقاً، وهو قول يُعد شاذاً ومخالفاً لإجماع الأمة على حرمة مس الأجنبية.
الجواب:
يُعتبر قول ابن حزم هذا من المسائل التي شذ بها عن جمهور الفقهاء. فالأصل في الشريعة هو تحريم مس الأجنبية والاطلاع على عورتها، وقصة سالم لا تُفهم على إطلاقها في هذا السياق. وقد أجاب العلماء عن إشكال التقام سالم ثدي سهلة باحتمال أن تكون سهلة قد حلبت اللبن ثم شربه سالم من غير أن يمس ثديها، وهو احتمال ذكره عياض وحسنه النووي. وحتى لو وقع التقام الثدي في قصة سالم، فإن ذلك يُحمل على الضرورة أو الخصوصية، ولا يُعمم الحكم منه على جميع الحالات. فالشريعة الإسلامية جاءت بسد الذرائع وحفظ الأعراض، وهذا القول لابن حزم يُخالف هذا المقصد العظيم.
الشبهة الثانية: تعارض رأي عائشة مع الأحاديث العامة
الشبهة:
كيف يمكن التوفيق بين رأي عائشة رضي الله عنها في إرضاع الكبير، وبين الأحاديث النبوية العامة التي تُحدد الرضاع المحرِّم بالصغر وقبل الفطام، مثل حديث أم سلمة: "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام"، خاصة وأن عائشة نفسها هي من رواة بعض هذه الأحاديث؟
الجواب: أجاب العلماء عن هذا الإشكال بعدة أوجه:
• فهم عائشة للحديث: لعل عائشة رضي الله عنها فهمت من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" [4] اعتبار مقدار ما يسد الجوعة من لبن المرضعة لمن يرتضع منها، وذلك أعم من أن يكون المرتضع صغيراً أو كبيراً. فإذا كان الرضاع يُحقق الإشباع والتغذية، فإنه يُحرم سواء كان المرتضع صغيراً أو كبيراً. وبالتالي، فإن الحديث لا يكون نصاً صريحاً في منع اعتبار رضاع الكبير.
• خصوصية حالة سالم: ذهب جمهور الصحابة وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم الأخريات إلى أن قصة سالم كانت رخصة خاصة به، وليست حكماً عاماً يُعمل به. وقد قالت أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة" [5]. وهذا هو الرأي الراجح عند الجمهور، ويُقرره ابن الصباغ وغيره. فالأصل في الأحكام الشرعية هو العموم، إلا ما دل الدليل على خصوصيته، وقصة سالم تحمل قرائن تدل على الخصوصية، مثل سؤال سهلة عن حال سالم بعد تحريم التبني، وما كان عليه من مشقة.
• النسخ: ذهب بعض العلماء، كالمحب الطبري، إلى أن حكم رضاع الكبير كان معمولاً به في أوائل الهجرة، ثم نُسخ بالأحاديث التي تُحدد الرضاع المحرِّم بالحولين. واستدلوا بأن أحاديث الحولين رواها أحداث الصحابة، مما يدل على تأخرها. إلا أن هذا الاستدلال ضعيف، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي أو صغره أن يكون ما رواه متأخراً في الحكم. بل إن سياق قصة سالم نفسه يُشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين، حيث قالت امرأة أبي حذيفة للنبي صلى الله عليه وسلم: "وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟"، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "قد علمت أنه رجل كبير"، وفي رواية لمسلم: "قالت: إنه ذو لحية. قال: أرضعيه" [6]. وهذا يُشير إلى أنها كانت تعرف أن الصغر معتبر في الرضاع المحرِّم، وأنها استشكلت إرضاع الكبير.
• قاعدة سد الذرائع: يرى بعض العلماء أن الأخذ برأي عائشة في إرضاع الكبير يُفتح باباً للفساد وانتهاك الأعراض، حيث قد يتذرع البعض بذلك للاختلاط بالأجنبيات. والشريعة جاءت بسد الذرائع المؤدية إلى الحرام، وهذا يُعضد رأي الجمهور في عدم اعتبار رضاع الكبير.
الشبهة الثالثة: عدم وقوع إرضاع من عائشة نفسها
الشبهة:
رأى بعض العلماء، مثل محمد بن خليل الأندلسي، أن عائشة رضي الله عنها وإن صح عنها الفتيا بذلك، إلا أنه لم يقع منها إدخال أحد من الأجانب بتلك الرضاعة، مما يُشير إلى أنها لم تُطبق فتواها عملياً.
الجواب:
هذا القول فيه غفلة عما ثبت عند أبي داود في هذه القصة، فقد كانت عائشة رضي الله عنها "تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها" [7]. وإسناد هذا الحديث صحيح، وهو صريح في تطبيق عائشة لفتواها عملياً، مما يُبطل هذه الشبهة. فليس هناك ظن غالب وراء هذا النص الصريح الذي يُثبت فعلها وتوجيهها لغيرها بالعمل بفتواها.
الآيات القرآنية الواردة في المقال
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [سورة البقرة: 233]
المصادر والمراجع
1- حديث أم سلمة: "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام". صححه الترمذي وابن حبان. (ورد في فتح الباري ج 9 ص 150)
2- قصة سالم مولى أبي حذيفة: أخرجه مسلم في صحيحه. (ورد في فتح الباري ج 9 ص 150)
3- حديث عائشة: "فكانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها". أخرجه أبو داود. (ورد في فتح الباري ج 9 ص 150)
4- حديث: "إنما الرضاعة من المجاعة". (ورد في فتح الباري ج 9 ص 150)
5- قول أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة". أخرجه مسلم. (ورد في فتح الباري ج 9 ص 150)
6- رواية مسلم لقصة سالم: "قالت: إنه ذو لحية. قال: أرضعيه". (ورد في فتح الباري ج 9 ص 150)
7- حديث عائشة عند أبي داود: "فكانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها". (ورد في فتح الباري ج 9 ص 150)
المراجع العامة:
• فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، الجزء 9، صفحة 150.
• النسخة الجديدة طبعة بيت الأفكار الدولية، الجزء 3، صفحة 2251. (لم يُذكر اسم الكتاب تحديداً، لكنه مرجع عام للمقال الأصلي)
خاتمة
تُظهر دراسة مسألة رضاع الكبير عمق الفقه الإسلامي وتنوع الآراء فيه، وكيف أن العلماء يتناولون القضايا الشائكة بالبحث والتحقيق والاستدلال. ورغم الخلاف الفقهي حول هذه المسألة، فإن رأي الجمهور القائل بأن الرضاع المحرِّم هو ما كان في الصغر وقبل الفطام هو الأقوى دليلاً والأكثر اتساقاً مع مقاصد الشريعة في حفظ الأعراض وسد الذرائع.
أما قصة سالم مولى أبي حذيفة، فتُحمل على الخصوصية أو الضرورة، ولا تُعمم على جميع الحالات. ويبقى الاجتهاد الفقهي مستمراً لبيان الأحكام الشرعية في كل زمان ومكان، بما يُحقق مصالح العباد ويُحافظ على مقاصد الشريعة الغراء.