الشبهة:
يستند بعض الطاعنين في السنة النبوية إلى رواية وردت في موطأ الإمام مالك وصحيح مسلم، مفادها أن النبي ﷺ أمر سهلة بنت سهيل أن تُرضِع سالمًا مولى أبي حذيفة خمس رضعات ليصبح من محارمها. ويُفهم من ظاهر الرواية - زعمًا - أن الرضاعة جائزة للرجال البالغين، بل يُنسب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر أخواتها وبنات أخواتها بإرضاع من أرادت أن يدخل عليها من الرجال!
ويستغل هؤلاء هذه الرواية للطعن في الأحكام الشرعية والتشكيك في المرويات الصحيحة، وادعاء أن الإسلام يبيح للمرأة أن تُرضِع الرجل البالغ لتنشأ بينهما علاقة محرمية، وهو ما يتنافى مع الحياء والفطرة.
نص الرواية في موطأ الإمام مالك:
قال الإمام مالك في الموطأ (جـ4، صـ870، حديث رقم 2247/537):
«مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ.
فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، كَانَ قَدْ تَبَنَّى سَالِمًا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ...
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ، فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، مَا أَنْزَلَ، قَالَ :﴿ٱدْعُوهُمْ لِآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوٓا ءَابَآءَهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥].
.. فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ، وَأَنَا فُضُلٌ... فَقَالَ: «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ؛ فَيَصِيرُ مِنَ الْمَحَارِمِ».
فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ، وَأَبَيْنَ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، وَقُلْنَ: هَذِهِ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِسَالِمٍ».
نص الرواية الأخرى عن عائشة (رضي الله عنها):
في الموطأ (رقم 2239):
«مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ، أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْسَلَتْ بِهِ وَهُوَ يَرْضَعُ، إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ... فَقَالَ: فَأَرْضَعَتْنِي ثَلاثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ تُتِمَّ... فَلَمْ أَكُنْ أَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ».
الرد على الشبهة تفصيلًا:
رخصة خاصة بسالم فقط:
♦ صرحت أمهات المؤمنين أن ما فعله النبي ﷺ مع سهلة بنت سهيل هو رخصة خاصة بسالم. وقلن:
«لاَ وَاللَّهِ، مَا نَرَى الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إِلَّا رُخْصَةً... لاَ يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهذِهِ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ».
الرضاع لا يُعتد به بعد الحولين:
♦ جمهور العلماء متفقون على أن الرضاع لا يُثبت المحرمية إلا في الصغر، قبل الحولين، مستدلين بقول الله تعالى: ﴿وَٱلْوَلِدَٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٣٣].
♦ وبهذا لا يكون رضاع الكبير المعتاد مؤثرًا شرعيًا في إثبات المحرمية.
تفسير "الغلام الأيفع":
♦ ورد في صحيح مسلم (جـ2، صـ1077) عن زينب بنت أم سلمة، أن أم سلمة أنكرت على عائشة دخول "غلام أيفع" عليها، أي الذي قارب البلوغ.
♦ وفسره النووي بأنه: "الذي لم يبلغ ولكنه قارب البلوغ"؛ أي ليس رجلًا بالغًا.
رضاع عائشة كان في الصغر:
♦ الرواية الواضحة في الموطأ تشير إلى أن من أرسلتهم عائشة للرضاعة كانوا أطفالًا رُضَّعًا. فقد ورد: «أَرْسَلَتْ بِهِ وَهُوَ يَرْضَعُ».
♦ أي أنه كان في سن الرضاعة أصلًا، وليس كبيرًا.
خلاصة القول:
إنّ ما ورد في حديث رضاع سالم هو حالة خاصة أُجيزت لسد حاجة واقعية في حياة سهلة بنت سهيل، لما كانت تعانيه من مشقة عيش سالم معها في بيت واحد. وقد فهمت أمهات المؤمنين (عدا عائشة) أنها رخصة خاصة، ولم يعمّمن الحكم.
أما دعوى أن عائشة كانت تأمر بإرضاع الرجال البالغين ليدخلوا عليها، فهي باطلة من حيث الفهم والسياق، بل إن الروايات صريحة في أن هؤلاء كانوا صغارًا في سن الرضاعة.
🔹 المصادر:
1- الموطأ – مالك بن أنس الأصبحي – جـ4، صـ870، حديث 2247 و2239
2- صحيح مسلم – باب رضاع الكبير – جـ2، صـ1077
3- شرح صحيح مسلم – الإمام النووي – جـ10، صـ33
4- لسان العرب – ابن منظور – جـ8، صـ414
5- القرآن الكريم – سورة الأحزاب: ﴿ٱدْعُوهُمْ لِآبَآئِهِمْ...﴾ [٣٣: ٥]
6- سورة البقرة: ﴿وَٱلْوَلِدَٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [٢: ٢٣٣]