من المسائل التي يختلط فيها الفهم عند كثير من الناس التفريق بين الوحي الذي هو خاص بالأنبياء والمرسلين، وبين الإلهام الذي قد يقع لبعض الصالحين أو عامة الناس. ولأن الخلط بينهما قد يؤدي إلى ادعاء الباطل أو نسبة علم الغيب إلى غير الله تعالى، وجب بيان الفروق الدقيقة بين هذين المفهومين وفق النصوص الشرعية وأقوال أهل العلم.

يتناول المقال معنى الوحي في اللغة والشرع، وأن منه وحي الإرسال الخاص بالأنبياء والمرسلين، وقد انقطع بوفاة النبي ﷺ، ومنه وحي الإلهام الذي قد يقع لغيرهم كإلهام أم موسى أو وحي الله للنحل. كما يوضح المقال حقيقة الإلهام وأنه لا يرقى إلى درجة الوحي، بل قد يكون من الله فيُستبشر به إذا وافق الشرع، وقد يكون من تزيين الشيطان فيُرد ويستعاذ بالله منه. ويبين المقال ضوابط التفرقة بين الوحي والإلهام، مع ذكر أمثلة من حياة الصحابة رضي الله عنهم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان محدَّثًا ملهمًا، ومع ذلك لم يكن معصومًا من الخطأ

الوَحْيُ لُغَةً:

 هُوَ الإِعْلَامُ بِسُرْعَةٍ وخَفَاءٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: وَحْيُ إِلْهَامٍ - وَوَحْيُ إِرْسَالٍ.

فَوَحْيُ الإِلْهَامِ:

 هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوْتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُوْنَ (النَّحل:68)، وكَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوْسَى أَنْ أَرْضِعِيْهِ (القَصَص:7).

مقالات السقيفة ذات الصلة:

شبهات الشيعة حول ابن تيمية

هل ورّث النبي ﷺ علم الغيب للأئمة فقط؟

وَأَمَّا وَحْيُ الإِرْسَالِ:

 فَهُوَ الَّذِيْ يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيْلُ إِلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا الوَحْيُ قَدْ يَكُوْنَ مَا يُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ مُشَافَهَةً وَيَرَاهُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الحَدِيْثِ (كَانَ جَبْرَائِيلُ يَأْتِي النَّبِيَّ فِي صُوْرَةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ).

وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الوَحْيِّ فَالأَصْلُ أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ مَا كَانَ مِنَ اللهِ تَعَالَى جَزْمًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُوْلًا فَيُوْحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيْمٌ (الشُّوْرَى:51)

وَأَمَّا الإِلْهَامُ:

 فَالأَصْلُ أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْزِمَ المَرْءُ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَتُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِهِ، كَمَا جَرَى معَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. (لَقَدْ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فإِنَّهُ عُمَرُ) وقوله: جعل الحق على لسان عمر.

رُغْمَ أَنَّهُ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ أَحْيَانًا الإِلْهَامُ، أَوْ تَزْيِيْنُ الشَّيَاطِيْنِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوْهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُوْنَ (الأَنْعَام:112)

فالفرق بينهما: ان الوحي يكون حقاً ومن الله تعالى فلذلك جعل لهذا الوحي حرساً بخلاف الالهام، كما قال تعالى: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احداً الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا.

فوحي الارسال انقطع الان لقوله تعالى:

﴿اليوم اكملت لكم دينكم.

وقال ابن عباس رضي الله عنه: ما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رواه الامام احمد وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط.

6990 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا المُبَشِّرَاتُ» قَالُوا: وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ»

[تعليق مصطفى البغا]:

6589 (6/2564) - [ ش(لم يبق) أي بعد نبوته صلى الله عليه وسلم. (المبشرات) جمع مبشرة من التبشير وهو إدخال السرور والفرح على المبشر والمراد أن الوحي ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا]

صحيح البخاري تحقيق محمد زهير طبعة دار طوق النجاة تعليق مصطفى ديب البغا وغيرها..

واما الالهام: فإنه لا يستطيع احد ان يجزم انه من عند الله قد يكون من الشياطين، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوْهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُوْنَ

وكقوله صلى الله عليه وسلم: ان للشيطان لمة بابن ادم وللملك لمة، فأما لمة الشطان فإيعاد بالشر واما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم انه من الله تعالى فليحمد الله ومن وجد الاخرى فليتعوذ بالله من الشيطان.

فضابط هذا امران:

 عدم مخالفة الشرع، ثم حصول الخير به.

ثم ان الملهم اذا وافق الحق مره او مرتين او ثلاث او اربع فانه لا يلزم من هذا ان يكون موافقاً للحق على طول.

فهذا عمر رضي الله عنه الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فإِنَّهُ عُمَرُ.

نجد ان عمر رضي الله عنه وافق الحق وخالف الحق وهو من الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم انه محدث، ثم ان هذا ثبت ان هناك محدثون في هذه الامة.

يقول عمر رضي الله عنه: وفقت ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام ابراهيم مصلى، فنزلت: واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى.

 وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله لو أمرت نساءك ان يحتجبن، فانه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب.

واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه ان طلقكن ان يبدله ازواجاً خير منكن.

فنزلت هذه الآية. متفق عليه

وعمر رضي الله عنه قد نقل عنه خلاف الحق ثم رجع اليه، فمنها، ما حصل يوم الحديبية والحديث:

قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ؛ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ؛ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ؛ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا - وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ الَّذِيْ كَانَ بَيْنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم وَبَيْنَ المُشْرِكِيْنَ - فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ؛ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟! فَقَالَ: (بَلَى)، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟! قَالَ: (بَلَى)، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِيْنِنَا؟ أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟! فَقَالَ: (يَا ابْنَ الخَطَّابِ! إِنِّي رَسُوْلُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا)، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُوْلُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا؛ فَنَزَلَتْ سُوْرَةُ الفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ).

وحواره مع ابي بكر رضي الله عنه في حروب الردة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُوْلُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ)؟! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُوْنِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّوْنَهَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ.

فلو كان يعلم الغيب او يجزم بانه على الحق لما صدر عنه ذلك.

وامة محمد صلى الله عليه وسلم لا تحتاج الى محدثون، اما الامم السابقة كانوا يحتاجون اليه ويحتاجون لعدد من الانبياء، اما امة محمد صلى الله عليه وسلم قد اغناهم الله تعالى عن الانبياء والرسل فكيف لا يغنيهم عن المحدثون؟

فالخلاصة:

 ان المحدث هو الملهم والالهام لا يعني علم الغيب انما هو ظن والظن ليس بعلم يقيني، والالهام ليس مخصص بفلان او فلان.