التمييز بين المكاسب والغنائم
من الواضح أن القرآن الكريم فرّق بجلاء بين مفهوم "الكسب" و"الغنيمة"، حيث جعل لكلٍّ منهما أحكامًا ومجالات مختلفة. فـ"الكسب" يرتبط بما يكتسبه الإنسان من أمواله عبر البيع والشراء والعمل، وقد ورد ذكره في سياق الآيات التي تحث على الإنفاق في سبيل الله، كما في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 267].
هذه الآية جاءت ضمن مجموعة من الآيات التي تدور حول موضوع الإنفاق وتتناول بوضوح الأموال المكتسبة، حيث ابتدأت بـ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 261]، وانتهت عند قوله: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ [البقرة: 274].
وبعدها تحدثت الآيات عن الربا والدين ثم اختتمت السورة بآيات ثلاث، ولم يُذكر فيها أن "الخمس" فريضة على المكاسب.
أما في سورة الأنفال، التي ارتبطت بسياق الحرب والغنائم، فقد جاء النص صريحًا في تخصيص "الخمس" لأموال الغنائم: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: 41].
وبالتالي، فإن النص القرآني وضع فريضة الخمس في سياق "الغنيمة" دون "الكسب"، ولو شاء الله لجعل النص: "أنما كسبتم من شيء فأن لله خمسه"، لكنه لم يفعل.
الغنيمة في خطاب القرآن
اللفظ "غنيمة" ورد في القرآن الكريم ست مرات فقط، أربع منها بصيغة الفعل ومرتين بصيغة "مغانم"، وجميعها جاءت في سياقات القتال والغلبة على العدو الكافر. فلم يستخدم القرآن هذه الكلمة في سياق المكاسب الشخصية أو التجارية للمسلمين.
أمثلة من الآيات:
- ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا﴾ [الفتح: 15].
- ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ [الفتح: 20].
- ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [الأنفال: 69].
في جميع هذه المواضع، ارتبطت "الغنيمة" بأموال مأخوذة من العدو الكافر أثناء القتال أو بعده. ولم يرد في أي موضع أن أموال المسلمين أو أرباحهم الشخصية تدخل ضمن هذا المفهوم.
- منوعات من موقع السقيفة
غير معقول ما يقوله هذا المتصل ! (فيديو)
هل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مبارك؟
التمييز بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي
الشرع يستخدم ألفاظًا قد تحمل معنى لغويًا عامًا، لكنّه يضفي عليها دلالة اصطلاحية خاصة لا ينبغي الخلط بينها وبين المعنى اللغوي. فمثلًا:
- "الصلاة" في اللغة تعني الدعاء، لكن في الشريعة هي عبادة مخصوصة بأفعال وأقوال محددة.
- "الإيمان" لغويًا هو التصديق، لكنه شرعًا: تصديق قلبي يؤدي إلى عمل، كما في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا... وَجَاهَدُوا﴾ [الحجرات: 15].
وبالمثل، فإن "الغنيمة" رغم كونها في اللغة تعني الظفر بشيء، فإن معناها الشرعي محصور في المال المأخوذ من الكفار بالقتال.
لا يجوز تحميل المكاسب معنى الغنائم
إطلاق وصف "غنيمة" على المكاسب والأرباح الخاصة بالمؤمنين يُعدّ تجاوزًا لمقصود الشارع، وخروجًا عن المعنى الاصطلاحي. لأن الغنيمة، حسب الشرع، لها شروط:
1) أن تُؤخذ من كافر.
2) أن تكون مأخوذة بقوة القتال.
وهذان الشرطان لا ينطبقان على أموال المسلمين، فلا يجوز أخذ خمس منها بناءً على تشابه لفظي لا يُعتد به شرعًا. كما أن القول بأن كل كسب هو غنيمة لأنه "ظفر" بشيء، يشبه القول بأن كل لباس هو "ثوب" في حال فرضت ضريبة على "الثياب"، وهذا تلاعب لفظي.
سياق المكاسب في القرآن مختلف تمامًا عن سياق الغنائم
المكاسب ذُكرت في القرآن في معرض الإنفاق، والزكاة، والزرع، والنفقة، كما في قوله تعالى:
﴿أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، بينما وردت الغنائم في سياقات حربية خالصة، كما في سورة الأنفال والحشر. الفارق الجوهري بينهما يكمن في طبيعة المال، فالمكاسب مال مكتسب بالتراضي، أما الغنائم فهي مال مأخوذ عنوة من محارب كافر.
الغنيمة كسب خاص لا يعمم على كل مكسب
حتى لو قيل إن الغنيمة داخلة ضمن عموم "الكسب"، فهي تظل قسمًا خاصًا، كما أن "الثوب" لباس خاص. لا يجوز أخذ حكم "الثوب" وتطبيقه على كل لباس.
وكذلك لا يصح أخذ حكم "الغنيمة" وتعميمه على المكاسب الأخرى، لأن النص القرآني علق فريضة الخمس على الغنيمة فقط.
ولو أراد الله فرض الخمس على المكاسب، لنزل بذلك نص واضح كما قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم﴾، ولم يقل: "كسبتم".
أقوال أهل البيت (عليهم السلام) تؤيد تخصيص الخمس بالغنائم
الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بيّن في عدة روايات أن الخمس مخصوص بالغنائم الحربية:
"ليس الخمس إلا في الغنائم فقط".
كما فصّل الفقهاء من أمثال السيد الخوئي والسيد محمد صادق الصدر في تعريف الغنائم على أنها:
"أموال مأخوذة من الكفار في القتال"،
ولم يدرجوا المكاسب الشخصية ضمنها.
بل إن السيد الصدر عدَّد مصارف الخمس ومواضع وجوبه، فذكر:
- الغنائم،
- المعدن،
- الكنز،
ولم يخلط بينها وبين الأرباح الشخصية، مما يؤكد الفرق بين الأمرين.
الخلاصة
الغنيمة مصطلح شرعي محدد لا يجوز تعميمه على المكاسب. والخمس فريضة قرآنية مرتبطة فقط بالغنائم الحربية، وليس للأرباح الشخصية والمكاسب التجارية أي نص شرعي قرآني يلزم إخراج الخمس عنها.
وأي محاولة لفرض الخمس على مكاسب المسلمين اعتمادًا على الاشتراك اللغوي بين "الغنيمة" و"الكسب" تفتقر إلى السند النصي من القرآن، وتُعد تحريفًا للمفاهيم الشرعية.