تُعتبر قصة الغرانيق من أكثر الروايات التي طعن بها المغرضون في عصمة النبي ﷺ ومكانة الرسالة، إذ صُورت وكأن الشيطان تكلّم على لسان الرسول أو ألقى إليه ما لا يليق بمقام النبوة. وقد أولى العلماء هذه القصة عناية خاصة من حيث التحقيق والنقد، فأبطلها جملة وتفصيلًا كبار المحدثين، وعلى رأسهم الإمام محمد ناصر الدين الألباني الذي خصّها برسالة مطبوعة بيّن فيها علل أسانيدها ومتونها، وحكم عليها بالبطلان سندًا ومتنًا. وفي مقابل ذلك، حاول بعض الأئمة كالحافظ ابن حجر تقوية القصة بكثرة طرقها، مستندًا إلى قاعدة جبر الحديث الضعيف بتعدد الطرق. غير أن الألباني ناقش هذه القاعدة نقاشًا علميًا دقيقًا، مبرزًا أنها ليست على إطلاقها، بل يُشترط أن يكون الضعف قابلاً للانجبار، أما إذا كان الضعف شديدًا – كالإرسال أو تهمة الكذب أو الجهالة – فلا تصلح كثرة الطرق لتقوية الحديث، بل تزيده ضعفًا. من هنا جاءت أهمية دراسة هذه القصة، إذ تكشف عن المنهج الدقيق لأهل الحديث في نقد الروايات وتمييز الصحيح من الباطل، وصيانة السنة النبوية من الدخيل والموضوع.
لقد ذكر الامام الالباني الروايات من بداية ص 9 وما بعدها الى ص 36 وبين علل الروايات ثم ردها متنا، ثم رد كلام الحافظ ابن حجر بعد ذلك، حيث قال: " كلام الحافظ والرد عليه
وقد يقال: إن ما ذهبت إليه من تضعيف القصة سندا وإبطالها متنا يخالف ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر من تقويتها كما سبق الإشارة إليه آنفا..
فالجواب: أنه لا ضير علينا منه ولئن كنا خالفناه فقد وافقنا جماعة من أئمة الحديث والعلم سيأتي ذكرهم فاتباعهم أولى لأن النقد العلمي معهم لا لأنهم كثرة ورحم الله من قال: " الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف الرجال "
ولبيان ذلك لا بد لي من أن أنقل كلام الحافظ بتمامه ثم أتبعه ببيان رأينا فيه والصواب الذي نرمي إليه فأقول: قال الحافظ في " الفتح " (8 / 354 - 355) بعد أن ساق الرواية الأولى وخرجها هي وغيرها مما تقدم:
وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع ولكن لكثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين " (ثم ذكر الرواية الثانية والثالثة ثم قال: (وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها وهو إطلاق مردود عليه وكذا قول عياض: هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم قال: ولم ينقل ذلك انتهى. وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لا اعتضاد بعضها ببعض "
قاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها؟
والجواب عن ذلك من وجوه:
أولا: أن القاعدة التى أشار إليها وهي تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها وقد نبه على ذلك غير واحد من علماء الحديث المحققين منهم الحافظ أبوعمر بن الصلاح حيث قال رحمه الله في "مقدمة علوم الحديث " (ص 36 - 37):
لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوما بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة مثل حديث: الأذنان من الرأس " ونحوه فهلا جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن لأن بعض ذلك عضد بعضا كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفا؟
وجواب ذلك أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه:
بل ذلك يتفاوت فمنه ما يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ رواية ولم يختل فيه ضبطه له وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته وذلك كالضعيف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أوكون الحديث شاذا. وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة ".
مقالات السقيفة ذات الصلة: |
ضعف أسانيد تفسير "الشجرة الملعونة" إلى بني أمية الروحاني يقر بأن القرآن مخلوق!! |
قلت: ولقد صدق رحمه الله تعالى فإن الغفلة عن هذه النفيسة قد أوقعت كثيرا من العلماء لا سيما المشتغلين منهم بالفقه في خطأ فاضح ألا وهو تصحيح كثير من الأحاديث الضعيفة اغترارا بكثرة طرقها وذهولا منهم عن كون ضعفها من النوع الذي لا ينجبر الحديث بضعفها بل لا تزيده إلا وهنا على وهن ومن هذا القبيل حديث ابن عباس في هذه القصة فإن طرقه كلها ضعيفة جدا كما تقدم فلا يتقوى بها أصلا لكن يبقى النظر في طرق الحديث الأخرى هل يتقوى الحديث بها أم لا؟
فاعلم أنها كلها مرسلة وهي على إرسالها معلة بالضعف والجهالة كما سبق تفصيلها سوى الطرق الأربعة الأولى منها (رقم 1 و2 و3 و5) فهي التي تستحق النظر لأن الحافظ رحمه الله جعلها عمدته في تصحيحه هذه القصة وتقويته لها بها وهذا مما نخالفه فيه ولا نوافقه عليه وبيان ذلك يحتاج إلى مقدمة وجيزه مفيدة إن شاء الله تعالى وهي:
ضعف الحديث المرسل:
الوجه الثاني: وهو يحتوي على تحقيق أمرين أساسيين:
الأول: أن الحديث المرسل ولوكان المرسل ثقة لا يحتج به عند أئمة الحديث كما بينه ابن الصلاح في " علوم الحديث " وجزم هو به فقال (ص 58):
ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر كما سبق بيانه... وما ذكرناه من سقوط الإحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث ونقاد الأثر وقد تداولوه في تصانيفهم
الأمر الثاني: معرفة سبب عدم احتجاج المحدثيين بالمرسل من الحديث فاعلم أن سبب ذلك إنما هو جهالة الوساطة التي روى عنها المرسل الحديث وقد بين ذلك الخطيب البغدادي في " الكفاية في علم الرواية " حيث قال (ص 287) بعد أن حكى الخلاف بالعمل المرسل:
والذي نختاره سقوط فرض العمل بالمراسيل وأن المرسل غير مقبول والذي يدل على ذلك أن إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه وقد بينا من قبل أنه لا يجوز قبول الخبر إلا ممن عرفت عدالته فوجب كذلك كونه غير مقبول وأيضا فإن العدل لو سئل عمن أرسل عنه؟ فلم يعدله لم يجب العمل بخبره إذا لم يكن معروف العدالة من جهة غيره وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره وتعديله لأنه مع الإمساك عن ذكره غير معدل له فوجب أن لا يقبل الخبر عنه وقال الحافظ ابن حجر في " شرح نخبة الأفكار " (ص 17) بعد أن ذكر الحديث المرسل في " أنواع الحديث المردود ": وإنما ذكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف لأنه يحتمل أن يكون صحابيا ويحتمل أن يكون تابعيا وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفا ويحتمل أن يكون ثقة وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق ويتعدد أما بالتجويز العقلي فإلى مالا نهاية وأما بالاستقراء فإلى ستة أو سبعة وهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض فإن عرف من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف لبقاء الاحتمال وهو أحد قولي أحمد وثانيهما: يقبل مطلقا وقال الشافعي رضي الله عنه: يقبل إن اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسندا كان أو مرسلا ليترجح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الأمر "
نصب المجانيق – محمد ناصر الدين الالباني - ص 37 – 42
فالأثر لا يصح، وهو مردود سندا، ومتنا كما قال الامام الالباني.