مرورِ الفاروق على رجلٍ من يهود بني قريظة، أخذ منه صحيفةً من التوراة
يُعَدُّ علمُ الحديثِ النبويِّ الشريف من أشرفِ العلومِ وأدقِّها، إذ به يُعرَف صحيحُ السُّنَّة من سقيمها، وتُحفَظ الشريعةُ من الدسِّ والتحريف. ومن الأحاديث التي نُقلت إلينا خبرُ مرورِ الفاروق رضي الله عنه على رجلٍ من يهود بني قريظة، فأخذ منه صحيفةً من التوراة، ثم أتى بها إلى النبي ﷺ.
هذا الحديثُ أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، وقد تكلَّم فيه العلماءُ قديماً وحديثاً، فبيَّنوا ضعفَ إسناده وعللَ طرقه، مع تقريرهم أن له أصلاً، لكن دون ثبوتٍ يصحُّ الاحتجاج به.
وتأتي هذه الدراسة لعرض نصِّ الحديث، وبيان أقوال الأئمة فيه، وكشف حال راويه جابر الجعفي الذي عُرف عند المحدثين بالضعف والغلو، حتى عابه بعضُ نقاد الشيعة أنفسهم، وذلك في محاولة لجلاء الصورة وتوضيح الموقف العلمي من هذا الأثر.
مقالات السقيفة ذات صلة: |
- حديث النهي عن كتابة الحديث: بين ضعف السند وصحة البيان - الشيعة: بَنُو أُمَيَّةَ هُمُ الشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ وأنها الزَّقُّوم |
مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي يَهُودِيٍّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ...» الْحَدِيثَ.
رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي (الْمُسْنَدِ، ح15864).
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: «جَمِيعُ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُحْتَجُّ بِهِ، لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهَا أَصْلًا» (فَتْحُ الْبَارِي 13/525).
قُلْتُ: قَوْلُ الْحَافِظِ (إِنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا) لَا يَعْنِي أَيَّ نَوْعٍ مِنْ تَقْوِيَةِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا يَقُولُ الْحَافِظُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَقُولَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ. فَإِنَّهُ يَصِفُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا كَمَا فَعَلَ فِي حَدِيثِ (أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ).
فَقَدْ قَالَ فِي لِسَانِ الْمِيزَانِ (6/301):
«يَحْيَى بْنُ بِشَارٍ الْكِنْدِيُّ أَتَى بِخَبَرٍ بَاطِلٍ». وَالْخَبَرُ الْبَاطِلُ عِنْدَ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ هُوَ رِوَايَةُ "أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا». وَلَكِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى (مُطَيَّنٍ) لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ فَقَالَ مُتَعَقِّبًا لَهُ: «هَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ، أَقَلُّ أَحْوَالِهَا أَنْ يَكُونَ لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ» (2/155). إِذَنْ، فَهُوَ يُصَرِّحُ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا رَدًّا عَلَى مَنْ يَحْكُمُ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ الْحَافِظِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ بَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ.
فَالضَّعِيفُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَإِنَّ لَهُ أَصْلًا، بِخِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَإِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَإِذَا كَانَ لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا. بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَافِظَ نَفْسَهُ وَصَفَ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ وَبَاطِلٌ، لَكِنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ الْوَضْعَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ لَا أَصْلَ لَهُ. فَالضَّعِيفُ لَهُ أَصْلٌ، وَالْمَوْضُوعُ مُخْتَلَقٌ مَكْذُوبٌ.
وَالْحَدِيثُ فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ. وَهُوَ سَبَئِيٌّ عُرِفَ مِنْ قَبْلُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، ثُمَّ لَمَّا انْكَشَفَ أَمْرُهُ حَذَّرَ أَهْلُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْهُ. بَلْ هُوَ مَطْعُونٌ فِيهِ حَتَّى عِنْدَ نُقَّادِ الرَّافِضَةِ وَالْعَارِفِينَ بِالرِّوَايَةِ وَالرَّاوِي.
• قَالَ الرَّافِضِيُّ هَاشِمٌ مَعْرُوفٌ الْحُسَيْنِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ: (مِنَ الْمُتَّهَمِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي الرِّجَالِ (الْمَوْضُوعَاتُ، ص234).
• وَقَالَ عَنْهُ النَّجَاشِيُّ: «وَكَانَ فِي نَفْسِهِ مُخْتَلِطًا» (رِجَالُ النَّجَاشِيِّ 1/314).
• قَالَ هَذَا فِيهِ مَعَ أَنَّهُ رَافِضِيٌّ مِثْلُهُ.
(انْظُرْ سِلْسِلَةَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، 4911).
• وَحَكَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ بِالْوَضْعِ وَذَلِكَ فِي كِتَابِهِ (الْمَوْضُوعَاتِ 2/217).
• وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ ثَعْلَبَةَ قَالَ: أَرَدْتُ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ فَقَالَ لِي لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: لَا تَأْتِهِ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ: مَتْرُوكٌ»
(مِيزَانُ الِاعْتِدَالِ 2/107، رَقْمُ 1427).
• قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ سَبَئِيًّا مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ، كَانَ يَقُولُ إِنَّ عَلِيًّا يَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَدْ أَكَّدَ مُسْلِمٌ، صَاحِبُ الصَّحِيحِ، ذَلِكَ. فَقَالَ: «حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ مَا أَحْدَثَ. وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَحْمِلُونَ عَنْ جَابِرٍ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَظْهَرَ، فَلَمَّا أَظْهَرَ مَا أَظْهَرَ اتَّهَمَهُ النَّاسُ فِي حَدِيثِهِ وَتَرَكَهُ بَعْضُ النَّاسِ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا أَظْهَرَ؟ قَالَ: الْإِيمَانَ بِالرَّجْعَةِ»
(صَحِيحُ مُسْلِمٍ 1/20، بَابُ أَنَّ الْإِسْنَادَ مِنَ الدِّينِ).
[random_related_posts]