تُعتبر شخصية يوسف عليه السّلام من أبرز الشخصيات القرآنية التي تجلّت فيها مظاهر النبوّة والطهارة والعصمة، وقد أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم فقال:
﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24].
ومع ذلك، فإنّ بعض الروايات الشيعية الواردة في كتبهم مثل علل الشرائع للصدوق قد نسبت إلى يوسف عليه السلام موقفًا يقدَّم على أنّه سبب في حرمانه من أن يكون من ذريته أنبياء. وهذه الرواية ـ كما سنعرضها ونناقشها ـ تحمل في طياتها طعنًا في مقام النبوّة، وتفتح الباب أمام التشكيك في عصمة الأنبياء وصورتهم المشرّفة التي جاءت بها نصوص الوحي.
ومن بين هذه الروايات ما أورده الصدوق في كتابه علل الشرائع حول نبيِّ الله يوسف عليه السّلام - حسب الرواية الشيعة-، حين قَدِم أبوه يعقوب عليه السّلام إلى مصر. فقد ورد أنّ يوسف أراد أن يترجَّل توقيرًا له، لكنّه نظر إلى مُلكه وسلطانه فلم يفعل، فجاءه جبريل عليه السّلام يخبره أنّه حُرم من شرف خروج نبيٍّ من صلبه. هذه الرواية تفتح بابًا واسعًا للتساؤل العقدي: هل كان موقف يوسف خطأً أم مجرّد تَركٍ للأَولى؟ وهل يُعَدّ الحرمان من النبوّة في ذريته نوعًا من العقوبة؟ وكيف ينسجم ذلك مع مفهوم العصمة عند الأنبياء؟
✦ نص الرواية:
روى الصدوق في كتاب علل الشرائع (باب 47 – العلّة التي من أجلها لم يخرج من صلب يوسف نبيّ):
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَطَّارِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُورَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: "لَمَّا أَقْبَلَ يَعْقُوبُ إِلَى مِصْرَ خَرَجَ يُوسُفُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِيَسْتَقْبِلَهُ، فَلَمَّا رَآهُ يُوسُفُ هَمَّ بِأَنْ يَتَرَجَّلَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ، فَلَمْ يَفْعَلْ. فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَى يَعْقُوبَ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرَائِيلُ فَقَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَكَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْزِلَ إِلَى عَبْدِيَ الصَّالِحِ إِلَّا مَا أَنْتَ فِيهِ؟ ابْسُطْ يَدَكَ. فَبَسَطَهَا فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ نُورٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا جِبْرَائِيلُ؟ فَقَالَ: هَذَا آيَةٌ، لَا يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِكَ نَبِيٌّ أَبَدًا، عُقُوبَةً لَكَ بِمَا صَنَعْتَ بِيَعْقُوبَ إِذْ لَمْ تَنْزِلْ إِلَيْهِ".
مقالات السقيفة ذات صلة |
رواية: سماك بن حرب نزل إلى الفرات وأغمس رأسه فردّ بصره |
الردود والتحليل:
1- موقف يوسف عليه السّلام: خطأ أم تَرك للأَولى؟
الرواية تُصرِّح أنّ يوسف عليه السّلام همَّ بالترجُّل لأبيه، أي قام في نفسه قصدُ التواضع والتكريم، لكنّه امتنع حين نظر إلى ما هو فيه من الملك. هذا الموقف لا يمكن تفسيره على أنّه كبرياء أو عصيان؛ لأنّ الكبرياء لا يليق بمقام نبيٍّ مصطفى من عند الله. بل هو تَركٌ للأَولى؛ إذ الأكمل والأفضل في حقّ نبيٍّ كريم مثل يوسف أن يُقدِّم الاحترام الأبوي على ما سوى ذلك. وهنا يظهر الفرق العقدي بين المعصية التي تُنافي العصمة، وبين ترك الأَولى الذي يترك باب الكمال مفتوحًا على مصراعيه.
2- معنى "العقوبة" وارتباطها بالعصمة:
نص الرواية يقول إنّ يوسف حُرم من شرف النبوّة في ذريته عقوبةً على موقفه. وهنا يثار التساؤل: كيف يُعاقَب نبيٌّ معصوم؟ الجواب عند علماء الشيعة أنّ العصمة تعني العصمة من المعصية والخطيئة المفسدة للدين، أمّا ترك الأَولى فلا يُنافي العصمة. ومن ثمّ، فالعقوبة ليست عقوبةً أخرويّة أو ذنبًا موجِبًا للعقاب، وإنّما هي حرمان دنيوي من فضلٍ كان يمكن أن يناله، تمامًا كما يُحرَم العبد أحيانًا من فضيلة بسبب تركه الأولى والأفضل. فهي عقوبة تأديبيّة لرفع الدرجات، وليست عقوبة إثم أو ذنب.
3- الحكمة العقديّة من الحرمان:
يمكن فهم "الحرمان من خروج نبيٍّ من صلب يوسف" باعتباره:
• تربية إلهيّة على ضرورة تقديم التواضع للأب، مهما بلغ مقام الإنسان.
• إشارة رمزيّة إلى أنّ النبوّة ليست ميراثًا جسديًّا، بل اصطفاء ربّاني قائم على الحكمة.
• تأكيد العصمة من خلال إظهار أنّ الأنبياء يُؤدَّبون حتى على أدقّ ترك للأَولى، ممّا يرفع مقامهم في طاعة الله.
4- مقارنة بنماذج أخرى:
تُذكّر هذه الرواية بمواقف مشابهة، مثل:
• موقف نبيّ الله موسى عليه السّلام حين ألقى الألواح من شدّة الغضب (تَرك الأَولى).
• أو قصّة نبيّ الله يونس عليه السّلام وخروجه مغاضبًا (ترك الأولى لا المعصية).
هذه النماذج كلّها تكشف أنّ الأنبياء يُربَّون على الكمال، ويُؤدَّبون في ترك الأولى، دون أن يقدح ذلك في عصمتهم.
✦ الخلاصة:
رواية علّة عدم خروج نبيٍّ من صلب يوسف عليه السّلام لا تُنقص من مقامه، بل تُظهِر شدّة العناية الإلهيّة بتربية أنبيائه على الأكمل والأفضل. فالواقعة لم تكن ذنبًا أو خطأً ينافي العصمة، وإنّما كانت تَركًا للأَولى، فجاء الحرمان من النبوّة في ذريته عقوبةً دنيويّة رمزيّة، تؤكّد أنّ مقام النبوّة اصطفاءٌ محضٌ لا يُنال بالوراثة الجسديّة، وإنّما بالاختيار الإلهيّ. وبذلك تبقى الرواية مجالًا للتأمّل في رحمة الله وحكمته في تربية أوليائه.