قضية المهدي المنتظر من القضايا العقدية الكبرى التي شغلت بال المسلمين منذ القرون الأولى، وقد تواترت فيها الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ بظهور رجل من أهل بيته في آخر الزمان، يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جورًا وظلمًا. غير أن بعض الطوائف – وفي مقدمتها الشيعة الإمامية – حاولت إلصاق هذه الأحاديث بشخصيات بعينها، وأبرزها ما زعموه في الإمام الثاني عشر المسمى "محمد بن الحسن العسكري"، الذي جعلوه هو القائم المهدي المنتظر، ونسجوا حوله أساطير الغيبة والسرداب والانتظار. وهذا المقال يستعرض الروايات الصحيحة في أمر المهدي، ويفند المزاعم الواهية التي استند إليها الرافضة، مع بيان موقف علماء أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.
ورواية أنه يلي الأمر بعد المهدي اثنا عشر رجلًا، ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين وآخر من غيرهم، واهية جدًا كما قاله شيخ الإسلام والحافظ الشهاب ابن حجر، أي مع مخالفتها للأحاديث الصحيحة أنه آخر الزمان وأن عيسى يأتم به.
وأخبر الطبراني:
«سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي خُلَفَاءُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ الْخُلَفَاءِ أُمَرَاءُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ الْأُمَرَاءِ مُلُوكٌ، وَمِنْ بَعْدِ الْمُلُوكِ جَبَابِرَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، ثُمَّ يُؤَمَّرُ الْقَحْطَانِيُّ، فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا هُوَ دُونَهُ».
مقالات السقيفة ذات صلة |
الروايات الصحيحة في كتب أهل السنة والجماعة عن المهدي مع نزول عيسى أحاديث نزول عيسى وصلاته وخروج المهدي شبهة حديث: المهدي خير من ابي بكر وعمر |
وعلى ما حملنا عليه كلام ابن عباس، يمكن أن يُحمل ما رواه هو عن النبي: «لَنْ تَهْلِكَ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا، وَالْمَهْدِيُّ وَسَطُهَا» (أخرجه أبو نعيم)، فيكون المراد به المهدي العباسي.
◘ ثم رأيت بعضهم قال: المراد بالوسط في خبر «لَنْ تَهْلِكَ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا، وَمَهْدِيُّهَا وَسَطُهَا، وَالْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا» ما قبل الآخر.
وأخرج أحمد والماوردي أنه قال:
«أَبْشِرُوا بِالْمَهْدِيِّ، رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ عِتْرَتِي، يَخْرُجُ فِي اخْتِلَافٍ مِنَ النَّاسِ وَزِلْزَالٍ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، وَيَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ، وَيَقْسِمُ الْمَالَ صِحَاحًا بِالسَّوِيَّةِ، وَيَمْلَأُ قُلُوبَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ غِنًى، وَيَسَعُهُمْ عَدْلُهُ، حَتَّى إِنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا فَيُنَادِي: مَنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَيَّ؟ فَمَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ يَأْتِيهِ فَيَسْأَلُهُ، فَيَقُولُ: ائْتِ السَّادِنَ حَتَّى يُعْطِيَكَ.
◘ فَيَأْتِيهِ فَيَقُولُ: أَنَا رَسُولُ الْمَهْدِيِّ إِلَيْكَ لِتُعْطِيَنِي مَالًا.
◘ فَيَقُولُ: احْثِ.
فَيَحْثِي مَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُ، فَيُلْقِي حَتَّى يَكُونَ قَدْرَ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَ، فَيَخْرُجُ بِهِ فَيَنْدَمُ.
◘ فَيَقُولُ: أَنَا كُنْتُ أَجْشَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ نَفْسًا، كُلُّهُمْ دُعِيَ إِلَى هَذَا الْمَالِ فَتَرَكَهُ غَيْرِي.
◘ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: إِنَّا لَا نَقْبَلُ شَيْئًا أَعْطَيْنَاهُ.
فَيَلْبَثُ فِي ذَلِكَ سِتًّا أَوْ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا أَوْ تِسْعَ سِنِينَ، وَلَا خَيْرَ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَهُ».
تنبيه:
الأظهر أن خروج المهدي قبل نزول عيسى عليه السلام، وقيل بعده.
◘ قال أبو الحسن الآبري: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى ﷺ بخروجه، وأنه من أهل بيته، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأنه يخرج مع عيسى – على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام – فيساعده على قتل الدجّال بباب لُدّ بأرض فلسطين، وأنه يؤمّ هذه الأمة ويصلّي عيسى خلفه.
انتهى.
وما ذكره من أن المهدي يصلّي بعيسى هو الذي دلّت عليه الأحاديث كما علمت.
مختارات من السقيفة |
الشيعة الإمامية تخرج النبي صلى الله عليه واله وسلم من الائمة قراءة القرآن في الحمام بين الجواز والضوابط |
وأما ما صحّحه السعد التفتازاني من أن عيسى هو الإمام بالمهدي لأنه أفضل فإمامته أولى، فلا شاهد له فيما علّل به، لأن القصد بإمامة المهدي لعيسى إنما هو إظهار أنه نزل تابعًا لنبينا ﷺ، حاكمًا بشريعته، غير مستقلّ بشيء من شريعة نفسه.
واقتداؤه ببعض هذه الأمة مع كونه أفضل من ذلك الإمام الذي اقتدى به، فيه من إذاعة ذلك وإظهاره ما لا يخفى.
على أنه يمكن الجمع بأن يقال:
إن عيسى يقتدي بالمهدي أوّلًا لإظهار ذلك الغرض، ثم بعد ذلك يقتدي المهدي به على أصل القاعدة من اقتداء المفضول بالفاضل، وبه يجتمع القولان.
◘ وروى أبو داود في سننه أنه من ولد الحسن، وكأنّ سرَّه تركُ الحسن الخلافة لله عز وجل شفقةً على الأمة، فجعل الله القائم بالخلافة الحقّ عند شدّة الحاجة إليها من ولده ليملأ الأرض عدلًا.
◘ ورواية كونه من ولد الحسين واهية جدًّا.
ومع ذلك لا حجة فيه لما زعمته الرافضة أن المهدي هو الإمام أبو القاسم محمد الحجة بن الحسن العسكري ثاني عشر الأئمة الآتين – في الفصل الآتي – على اعتقاد الإمامية.
ومما يرد عليهم ما صحّ أن اسم أبي المهدي يوافق اسم أبي النبي ﷺ، واسم أبي محمد الحجة لا يوافق ذلك.
ويردّه أيضًا قول علي:
مولد المهدي بالمدينة، ومحمد الحجة هذا إنما وُلِد بسرّ من رأى سنة خمس وخمسين ومائتين.
ومن المجازفات والجهالات زعم بعضهم أن رواية أنه من أولاد الحسن ورواية اسم أبيه اسم أبي، كلٌّ منهما وهم.
◘ وزعمه أيضًا أن الأمة أجمعت على أنه من أولاد الحسين! وأنّى له بتوهيم الرواة بالتشهّي ونقل الإجماع بمجرد التخمين والحدس.
◘ والقائلون من الرافضة بأن الحجة هذا هو المهدي يقولون: لم يُخَلِّف أبوه غيره، ومات وعمره خمس سنين، آتاه الله فيها الحكمة كما آتاها يحيى عليه السلام صبيًّا، وجعله إمامًا في حال الطفولية كما جعل عيسى عليه السلام كذلك.
◘ توفي أبوه بسرّ من رأى، وتستّر هو بالمدينة، وله غيبتان: صغرى منذ ولادته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته، وكبرى، وفي آخرها يقوم.
وكان فقده يوم الجمعة سنة ستٍّ وتسعين ومائتين فلم يُدرَ أين ذهب، خاف على نفسه فغاب.
فقال ابن خلّكان:
والشيعة ترى فيه أنه المنتظر والقائم المهدي، وهو صاحب السرداب عندهم.
وأقاويلهم فيه كثيرة، وهم ينتظرون خروجه آخر الزمان من السرداب بسرّ من رأى.
دخله في دار أبيه وأمه تنظر إليه سنة خمس وستين ومائتين، وعمره حينئذ تسع سنين، فلم يعد يخرج إليها.
◘ وقيل دخله وعمره أربع، وقيل خمس، وقيل سبعة عشر.
انتهى ملخّصًا.
والكثير على أن العسكري لم يكن له ولد، لطلب أخيه جعفر ميراثه من تركته لما مات.
فدلّ طلبه أن أخاه لا ولد له، وإلا لم يسعه الطلب.
◘ وحكى السبكي عن جمهور الرافضة أنهم قائلون بأنه لا عقب للعسكري، وأنه لم يثبت له ولد، بعد أن تعصّب قوم لإثباته.
وأن أخاه جعفرًا أخذ ميراثه، وجعفر هذا ضلّلته فرقة من لا شيعة، ونسبوه للكذب في ادّعائه ميراث أخيه، ولذا سموه.
واتبعه فرقة وأثبتوا له الإمامة.
والحاصل:
أنهم تنازعوا في المنتظر بعد وفاة العسكري على عشرين فرقة، وأن الجمهور غير الإمامية على أن المهدي غير الحجة هذا، إذ تغيب شخص هذه المدّة المديدة من خوارق العادات، فلو كان هو لكان وصفه بذلك أظهر من وصفه بغير ذلك مما مرّ.
◘ ثم المقرّر في الشريعة المطهّرة أن الصغير لا تصح ولايته، فكيف صاغ لهؤلاء الحمقى المغفلين أن يزعموا إمامة من عمره خمس سنين وأنه أوتي الحكم صبيًّا مع أنه لم يُخبر به؟ ما ذلك إلا مجازفة وجرأة على الشريعة الغرّاء.
قال بعض أهل البيت:
وليت شعري من المخبر لهم بهذا؟ وما طريقه؟ ولقد صاروا بذلك وبوقوفهم بالخيل على ذلك السرداب وصياحهم بأن يخرج إليهم ضحكةً لأولي الألباب.
ولقد أحسن القائل:
ما آنَ للسرداب أن يلد الذي ... كـلـمـتـمـوه وبـجهلكم ما آنا
فـعلى عقولكم العـفاء فإنكم ... ثـلـثـتـم الـعـنـقـاء والغـيلانا
والحاصل أن عقيدة أهل السنة والجماعة واضحة: المهدي رجل من أهل بيت النبي ﷺ، يخرجه الله في آخر الزمان، فيملأ الأرض عدلًا، ويصلي خلفه عيسى عليه السلام، وهذا هو الحق الذي تواترت به الأحاديث، بخلاف أباطيل الشيعة وخرافاتهم.