مسألة لعن يزيد بن معاوية من القضايا التي أثارت جدلًا واسعًا عبر القرون، بين من أجاز لعنَه ورأى أنه من الظالمين، وبين من منع ذلك خشية التعدي على مقام الصحابة وأهل البيت أو إطلاق أحكام بغير بيّنة. وقد صنّف العلماء كتبًا ومصنفات خاصة في هذا الباب، مما يعكس خطورة المسألة وحساسيتها. وفي هذا المقال، نعرض لأبرز الشبهات التي استدل بها القائلون بجواز لعن يزيد، ونورد الردود المفصلة عليها كما ذكرها كبار العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الغزالي، وابن كثير، وغيرهم، مع بيان الموقف الصحيح الذي استقر عند أهل السنة والجماعة.
المبحث الثالث: هل يجوز لعن يزيد بن معاوية؟
الحقيقة أنني ترددت كثيرًا في إدراج هذه المسألة في هذا البحث، وذلك لسببين:
أولهما أن الأمر يحتاج إلى نفس عميق وبحث متأنٍّ حتى لا تزلّ القدم بعد ثبوتها.
مقالات السقيفة ذات صلة: |
عند الشيعة الرسول ذهب عقله كاد عقلة أن يطير علي رضي الله عنه يعطل حد اللواط في كتب الرافضة |
والسبب الآخر أن هذه المسألة قد وقع فيها التخبط الكثير من الناس، وأحيانًا من الخواص فضلًا عن العوام.
فاستعنت بالله على خوض غمار هذه المسألة، ونسأل الله الهداية والرشاد.
وقد صُنِّفت المصنفات في لعن يزيد بن معاوية والتبريء منه؛ فقد صنف القاضي أبو يعلى كتابًا بيَّن فيه من يستحق اللعن، وذكر منهم يزيد بن معاوية، وألف ابن الجوزي كتابًا سمّاه الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد.
واتهم الذهبي – رحمه الله – يزيد بن معاوية فقال:
"كان ناصبيًا، فظًا، غليظًا، جلفًا، يتناول المسكر ويفعل المنكر".
وكذلك قال ابن كثير – رحمه الله –:
"وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك، وكان ذا جمال وحسن معاشرة، وكان فيه أيضًا إقبال على الشهوات، وترك الصلوات في بعض أوقاتها، وإماتتها في غالب الأوقات".
مقالات السقيفة ذات صلة: |
هل قول ابن القيِّم في فناء النار صحيح؟ |
قلت:
الذي يجوز لعن يزيد وأمثاله يحتاج إلى شيئين يثبت بهما:
1- أنه كان من الفاسقين الظالمين الذين تُباح لعنتهم.
2- أنه مات مصرًّا على ذلك.
والثاني: أن لعنة المعيَّن من هؤلاء جائزة؟
وسوف نورد فيما يلي أهم الشبهات التي استدل بها من أجاز لعن يزيد، مع الرد عليها:
أولًا: الاستدلال بظلمه وعموم قوله تعالى:
﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾
الرد:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –:
"هذه آية عامة كآيات الوعيد، بمنزلة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾. وهذا يقتضي أن هذا الذنب سبب للعن والعذاب، لكن قد يرتفع موجبه لمعارض راجح، إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفِّرة، وإما شفاعة شفيع مطاع، ومنها رحمة أرحم الراحمين".
فمن أين يُعلم أن يزيد لم يتب من هذا، أو لم يستغفر الله منه؟ أو لم تكن له حسنات ماحية؟ أو لم يُبتلَ بمصائب تكفِّر عنه؟
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا:
"إن لعن الموصوف لا يستلزم إصابة كل واحد من أفراده إلا إذا وجدت الشروط، وارتفعت الموانع، وليس الأمر كذلك".
ثانيًا: الاستدلال بأنه كان سببًا في قتل الحسين رضي الله عنه
الرد:
الصواب أنه لم يكن ليزيد بن معاوية يد في قتل الحسين رضي الله عنه، وهذا ليس دفاعًا عن شخص يزيد، لكن قول الحقيقة.
فقد أرسل يزيد عبيد الله بن زياد ليمنع وصول الحسين إلى الكوفة، ولم يأمر بقتله، بل إن الحسين نفسه كان حسن الظن بيزيد، حتى قال: "دعوني أذهب إلى يزيد فأضع يدي في يده".
قال ابن الصلاح – رحمه الله –:
"لم يصح عندنا أنه أمر بقتله – أي الحسين رضي الله عنه –، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –:
"إن يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق، ولما بلغ يزيد قتل الحسين أظهر التوجع على ذلك وظهر البكاء في داره، ولم يَسْبِ لهم حريمًا، بل أكرم أهل بيته وأجازهم حتى ردّهم إلى بلادهم... أما الروايات التي في كتب الشيعة أنه أُهين نساء آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُخذن إلى الشام مسبَيَّات فهذا كله كلام باطل".
وقال ابن كثير – رحمه الله –:
"وليس كل ذلك الجيش كان راضيًا بما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك، والله أعلم. والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه أبوه".
وقال الغزالي – رحمه الله –:
"فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به؟ قلنا: هذا لم يثبت أصلًا، فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت، فضلًا عن اللعنة".
بل حتى لو ثبت ذلك فهو من الكبائر التي لا تصل إلى الكفر، مع احتمال التوبة.
ثالثًا: الاستدلال بوقعة الحرّة وإباحة المدينة
الرد:
استدلوا بحديث: "من أخاف أهل المدينة ظلمًا أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا".
لكن الخروج على يزيد كان خروجًا على إمام بايعوه، وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من نقض البيعة، فقال:
"ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
وقد حذّر السلف من الخروج على الأئمة، فقال الفضيل بن عياض – رحمه الله –:
"لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في إمام، فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد".
ولهذا اعتبر العلماء أن معركة الحرّة كانت فتنة عظيمة، لا يجوز أن تُتخذ ذريعة للعن يزيد، بل يُتوقف فيها كما هو منهج أهل السنة والجماعة.