يُعد علم أصول الفقه أحد أهم العلوم الإسلامية التي تُبنى عليها استنباطات الأحكام الشرعية وضبط قواعد الاستدلال. وقد تميز أهل السنة والجماعة بسبقهم الواضح في تدوين هذا العلم وتأصيله، حيث ظهرت المؤلفات الأصولية عندهم قبل الشيعة الإمامية بقرون. بينما يعترف كبار علماء الشيعة أنفسهم ومنهم عبد الهادي الفضلي أن أول كتاب أصولي إمامي وصل إليهم هو كتاب أصول الفقه للمفيد المتوفى سنة 413 هـ، أي بعد اكتمال التصنيف السني وبلوغه مراحل متقدمة. في هذا المقال نسلط الضوء على هذا الاعتراف المهم، ونبين كيف اعتمد علماء الشيعة الأوائل على مؤلفات علماء السنة في تأسيس علم الأصول عندهم.

اعتراف علماء الشيعة بسبق أهل السنة في علم الأصول

قال الشيخ عبد الهادي الفضلي:

«إن أقدم مؤلف أصولي إمامي وصل إلينا هو: أصول الفقه، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي البغدادي المعروف بابن المعلِّم، والملقَّب بالمفيد، المتوفى سنة 413 هـ...»

(دروس في أصول فقه الإمامية، ص 8 9).

ويُضيف الفضلي موضحًا حال الشريف المرتضى عندما ألَّف كتابه الأصولي الذريعة:

«ويلاحظ هنا أن الشريف المرتضى عندما أراد وضع كتابه الأصولي (الذريعة) لم يجد أمامه ما يرجع إليه في دراسة المادة الأصولية إلا كتاب شيخه المفيد، وهو مختصر جدًّا، وإلى جانبه الكتب الأصولية السنية، وهي كثيرة وكاملة في مادتها ومتكاملة فيما بينها. وهذا الواقع بطبيعته يفرض عليه الرجوع إلى الكتب السنية من ناحية فنية على الأقل، وعليه أن يقارن ويوازن حتى تنتهي المسيرة الأصولية الإمامية بعد حين من الزمن إلى الأصول الإمامي المستقل، وفي الوقت نفسه نعى على المؤلفات السنية المتوافرة آنذاك إغراقها وإسرافها في التعامل مع معطيات علم الكلام بما يصعب معه التمييز بين علم الكلام وعلم الاصول من حيث المنهج ».

 ثم ينقل الفضلي نصًّا مهمًا عن المرتضى في مقدمة الذريعة حيث انتقد المؤلفات السنية آنذاك لاحتوائها على كثير من مباحث علم الكلام، فقال:

«أما بعد، فإني رأيت أن أُملي كتابًا متوسطًا في أصول الفقه، لا ينتهي بتطويل إلى الإملال، ولا باختصار إلى الإخلال، بل يكون للحاجة سدادًا، وللتبصرة زيادًا.. وأخص مسائل الخلاف بالإستيفاء والإستقصاء، فإن مسائل الوفاق تقل الحاجة فيها إلى ذلك، فقد وجدت بعض من أفرد لأصول الفقه كتابًا، وإن كان قد أصاب في كثير من معانيه وأوضاعه ومبانيه، قد شرد عن قانون أصول الفقه وأسلوبها، وتعداها كثيرًا وتخطاها، فتكلم على حد العلم والظن، وكيف يولد النظر العلم، والفرق بين وجوب المسبب عن السبب، وبين حصول الشيء عند غيره على مقتضى العادة، وما تختلف فيه العادة وتتفق، والشروط التي يعلم بها كون خطابه تعالى دالًا على الأحكام وخطاب الرسول صلى الله عليه وآله، والفرق بين خطابيهما. خطابيهما بحيث يجتمعان أو يفترقان، إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص للكلام في أصول الدين دون أصول الفقه..».
(دروس في أصول فقه الإمامية، ص 66 68).

اعتماد الشيعة على مؤلفات أهل السنة

ومن خلال استقراء مصادر المرتضى في الذريعة يتبين بجلاء اعتماده على كتب ومؤلفات علماء السنة والمعتزلة، ومن أبرزهم:

1-      أبو علي الجبائي المعتزلي (ت 303 هـ) ومن المظنون قويا أنه أخذ آراءه الاصولية والكلامية من كتابه (تفسير القرآن)، ومما نقل عنه في الكتب الاصولية والكلامية التي وقف عليها..

2-      أبو هاشم الجبائي (ت 321 هـ) له كتاب (العدة في أصول الفقه)، وأخال قويا أنه رجع إليه، وإلى ما نقل عن أبي هاشم من آراء كلامية واصولية في الكتب التي هي تحت متناوله.

3-      أبو الحسن الكرخي الحنفي (ت 340 هـ) له رسالة مشهورة في أصول الفقه التي عليها مدار فروع فقه الأحناف، ربما رجع إليها، وإلى ما نقل عنه في غيرها من رسائل وكتب.

4-      أبو بكر الفارسي الشافعي (ت حدود 350 هـ) صاحب الذخيرة في أصول الفقه.

5-      القفال الشاشي الشافعي (ت 365 هـ) صاحب كتاب في أصول الفقه.

6-      الحسين بن علي البصري المعتزلي (ت 367 هـ) صاحب كتاب التفضيل في الإمامة، كما رجع (أعني المرتضى) إلى كتابيه (الذخيرة) وهو في علم الكلام، و (الشافي) وهو في الإمامة. وأمر طبيعي أن تكون نسبة المراجع السنية فيه أكثر من المراجع الإمامية، لعدم وجود مؤلفات في أصول الفقه الإمامي غير مختصر استاذه الشيخ المفيد، فلا غنى له - حينئذ - عن أن يستفيد في التبويب لمواد أصول الفقه، ومسالك البحث فيها فنيا من تجارب سابقيه " اهـ.

ويعلق الفضلي بقوله:

«وأمر طبيعي أن تكون نسبة المراجع السنية فيه أكثر من المراجع الإمامية، لعدم وجود مؤلفات في أصول الفقه الإمامي غير مختصر أستاذه الشيخ المفيد، فلا غنى له حينئذ عن أن يستفيد في التبويب لمواد أصول الفقه، ومسالك البحث فيها فنيًّا من تجارب سابقيه».

الخاتمة:

يتبين مما سبق أن علم أصول الفقه عند الشيعة الإمامية نشأ متأخرًا عن أهل السنة، وأنهم لم يجدوا بدًّا من الاعتماد على المؤلفات السنية في تأسيسه. وهذا اعتراف صريح من كبار علماء الشيعة، مثل عبد الهادي الفضلي، بسبق أهل السنة والجماعة في هذا العلم الجليل.