من القضايا العقدية التي شغلت حيزًا واسعًا في الجدل بين السنة والشيعة قضية التقية. هذه العقيدة التي رفعتها الإمامية إلى منزلة عظيمة حتى جعلها بعض علمائهم تسعة أعشار الدين، بينما اعتبرها جمهور المسلمين خروجًا عن أصول الشريعة وذريعة لتبرير التناقضات والتخليط في الروايات والأحكام.
فالتاريخ حافل بالنقول التي تكشف كيف تحولت التقية عند الشيعة من وسيلة استثنائية للحفاظ على النفس – كما هو حال بعض صورها المشروعة في الإسلام – إلى أصل عقدي تُبنى عليه الأحكام وتُحمل به النصوص المتعارضة، بل صارت غطاءً لكثير من الاختلافات الداخلية والتباينات بين أقوال أئمتهم، ومخرجًا لتبرير ما يخالف إجماع المسلمين. ومن خلال تتبع أقوال علمائهم ومروياتهم القديمة والحديثة، يتضح أن هذا الأصل لم يكن مجرد اجتهاد فقهي، بل كان له أثر خطير في تمزيق وحدة الأمة وإبعاد الشيعة عن سائر المسلمين.
ثم إن المرء ليتساءل هنا:
ما هذه العقائد التي لو أظهروها لاستوجبت غضب الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم، بل حتى سلاطين الشيعة - كما قال الخميني[1]- فيصبوا بسببها جام غضبهم عليهم، ويتربصون بالشيعي لإهدار دمه، حتى كان الكفر والزندقة أخف بنظرهم من شيعة آل محمد، حتى اضطروهم بسبب ذلك إلى اللجوء إلى هذه التقية التي شذوا بها عن غيرهم؟!
أهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين؟ أم موافق لأصول الشرع الإسلامي وعقائده كما قال السبحاني في قوله الآنف الذكر؟!
أقوال علماء الشيعة حول التقية ودوافعها:
مقالات السقيفة ذات صلة |
الروايات الصحيحة في كتب أهل السنة والجماعة عن المهدي مع نزول عيسى أحاديث نزول عيسى وصلاته وخروج المهدي شبهة حديث: المهدي خير من ابي بكر وعمر |
أو كما قال الطباطبائي:
وكان موقف أئمة أهل البيت عليهم السلام مما يثار من الخلافات في هذه الفتنة موقفاً حكيماً، فقد كانوا يجارون الفقه الرسمي الذي تتبناه السلطة ما تسعهم المجاراة؛ لئلا يزيد الشرخ في هذه الأمة، فإذا خلوا إلى أصحابهم بينوا لهم وجه الحق فيما يختلف فيه الناس، وأمروهم بالكتمان والسر ما وسعهم ذلك، وحتى يقضي الله ما هو قاض، وهذا هو ما يعرف عند الإمامية ب«التقية»، ولم تكن الغاية منها المحافظة على النفوس والدماء من إرهاب السلطة، وإنما كانت الغاية منها كثيراً هي المحافظة على وحدة كيان الأمة من التصدع والتفرق قدر الامكان، على أن أهل البيت عليهم السلام لم يفرطوا في بيان أحكام الله وحدوده بسبب التقية وقد أساء كثير من الناس فهم التقية وتحاملوا على الشيعة بسببها، ولو عرفوا منطلقات التقية وحدودها من مصادرها الصحيحة لم يجدوا بداً منها في هذه الفترة الدقيقة والصعبة من تاريخ الإسلام[2].
ويقول مكارم الشيرازي:
إن كثيراً من عوام الشيعة - أو بعض خواصها - كانوا يقومون في وجه الحكومات والنظامات الفاسدة الأموية والعباسية بلا عدة ولا تخطيط صحيح، كأنهم يرون إعلان عقيدة الحق - ولو لم يكن نافعاً واجباً - وإخفائها - ولو لم يجلب إلا الوهن والضرر على المذهب ومقدساته - حراماً[3].
ويقول: إن كثيراً من عوام الشيعة وبعض خواصهم كانوا يتركون العشرة مع غيرهم من المسلمين من أهل السُنة؛ لأنهم إن أظهروا عقيدتهم الحق ربما وقعوا في الخطر والضرر وجلب البغضاء والعداوة، وإن أخفوه كانوا مقصرين في أداء ما عليهم من إظهار الحق، مرتكبين للأكاذيب، فيرون الأرجح ترك العشرة معهم وعدم إلقاء أنفسهم في أحد المحذورين[4].
وغيرها من أقوال شبيهة.
◘ أقول: لا شك، بل من المحال أن يكون ما عليه الشيعة موافقاً لعقائد سائر المسلمين، وإلا لانتفت مسألة التقية من أصلها، وقد رأيت ما يضحك الثكلى من الروايات والأقوال التي ذكرناها في معظم أبواب الفقه وغيرها التي حملها القوم على التقية.
◘ إذاً: لا بد من القول بخلاف ذلك، والأمر في حقيقته كذلك، فإن كثيراً من عقائد القوم هي خلاف ما عليه إجماع المسلمين، حتى اضطرهم هذا إلى إخفائها تحت ستار التقية والتذرع بمشروعيته بالخوف من سيوف بني أمية والعباس مما يستوجب الأمر منا إقامة البينة ورفع الالتباس.
رواية النوبختي وأصل القول بالتقية عند الشيعة:
◘ فـأقول: لعل أقدم نص وقفت عليه في أسباب التقية عند القوم ما أورده النوبختي، وهو من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجري حيث يقول في كتابه (فرق الشيعة) في معرض كلامه عن الاختلاف بين الشيعة بعد وفاة الباقر: إن بعضهم مال إلى قول سليمان بن جرير، وهو الذي قال لأصحابه: إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبداً، وهما القول بالبداء وإجازة التقية، أما التقية فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين فأجابوا فيها وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودونوه، ولم يحفظ ائمتهم تلك الأجوبة لتقادم العهد وتفاوت الأوقات؛ لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد، ولا في شهر واحد بل في سنين متباعدة وأشهر متباينة، وأوقات متفرقة، فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة، وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه وأنكروه عليهم، فقالوا:
مختارات من السقيفة |
الشيعة الإمامية تخرج النبي صلى الله عليه واله وسلم من الائمة قراءة القرآن في الحمام بين الجواز والضوابط |
من أين هذا الاختلاف؟ وكيف جاز ذلك؟!
قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية، ولنا أن نجيب بما أجبنا وكيف شئنا، لأن ذلك إلينا، ونحن نعلم بما يصلحكم وما فيه بقاؤنا وبقاؤكم وكف عدوكم عنا وعنكم. فمتى يظهر من هؤلاء على كذب ومتى يعرف لهم حق من باطل؟! فمال إلى سليمان بن جرير هذا لهذا القول جماعة من أصحاب أبي جعفر وتركوا القول بإمامة جعفر عليه السلام[5].
فهذه الرواية تفيد في بيان أحد أسباب القول بالتقية عند القوم، ولكن لا بد من بيان أمر هام قبل كل شيء:
وهو أننا ننزه أئمة أهل البيت رحمهم الله عما في الرواية وأمثالها من مآخذ ومطاعن، ولكن إيرادنا لها هو لبيان أن قضية المساوئ المترتبة على القول بالتقية قديمة جداً، وإن كان لا بد من حمل هذا الخبر على شيء فهو بيان أن أئمة أهل البيت وعلماء الرافضة - كما في صدر الخبر - يسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان.
فالذين وضعوا مذهب التشيع لأهل البيت بعيداً عن أئمة أهل البيت - رحمهم الله - اضطربت عليهم الكثير من العقائد التي بنوها على الأصل القائل بوجوب الإمامة بالنص من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي هو أساس الخلاف بين السنة والشيعة، كالقول بوجوب العصمة للإمام وغيرها من العقائد.
وحيث إن الأمر قد بلغ في الكثير من المسائل عند القوم إلى حد التناقض ولا بد؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ كان من عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82]، وخالفت الكثير منها واقع المسلمين، وهو محال باعتبار أن القوم يرون العصمة في أئمتهم مما يتحتم نفي التعارض فيما يصدر من معين واحد، بسبب ذلك لجئوا إلى حمل جميع أمثال هذه الروايات المضطربة على القول بالتقية.
الأسباب التي مهدت لترسيخ مبدأ التقية:
فهذه أحد الأسباب التي مهدت لترسيخ مبدأ التقية ورفع منزلتها إلى الحد الذي رأيت. وأسسوا بذلك أرضية خصبة ومساحة كافية لتحرك الوضاعين من خلالها؛ ليضعوا ما تهواه أنفسهم على لسان الأئمة، ويصرفوا كل ما يتعارض مع مخططهم من أقوال أو أفعال قد تكون صدرت حقاً عن الأئمة رحمهم الله، وبالأخص تلك التي توافق ما عليه إجماع المسلمين.
ولا شك في أن هذه الأسباب لا يمكن التغافل عنها، فهي مدعومة بشواهد كثيره، ولكن نريد التركيز هنا على السبب الرئيس من وراء وضع مبدأ التقية عند الشيعة بالصورة التي مرت بك: والسبب هذا هو تمزيق وحدة المسلمين بإبعاد من يستطيعون إبعاده عن الإسلام وعن سائر المسلمين، فمن يستقرئ تاريخ الشيعة وعقائدهم يجد أن من وضع أسسها وأقام بنيانها إنما أراد بها أن يبعد الشيعة عن سائر المسلمين، وأن يجعلوهم يشذون بعقائدهم عنهم، فهم يعرفون حق المعرفة أن واقع المسلمين وتاريخهم لا يتفق مع العقائد التي أرادوها لهذه الطائفة، فأحوال الأئمة رحمهم الله بدءاً من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسائر أهل بيته عليهم السلام - من أقوال وأفعال تتعارض تماماً مع هذه العقائد التي وضعوها، إذ كيف يستقيم للشيعة - مثلاً أن ينادوا بأن الصحابة رضوان الله عليهم وسائر المسلمين قد خالفوا أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الأئمة والإمامة، وأنهم اغتصبوا حقوق من نص الله ورسوله عليهم، بينما نجد أن الواقع يختلف تماماً عن كل هذا، فالقرآن يمدحهم ويثني عليهم، والعلاقة الحميمة هي التي كانت تجمع بين علي وبنيه رضي الله عنهم وسائر الصحابة، وعلى رأسهم الشيخان وذو النورين رضي الله عنهم أجمعين، فقد كانت بينهم ألفة واضحة، حتى إن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام سموا أبناءهم وبناتهم بأسماء الخلفاء الثلاثة، وعلى رأس هؤلاء الأمير والسبطان رضي الله عنهم، والمصاهرات بينهم مسطورة في كتب الفريقين، كزواج الفاروق عمر من أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وكذا كان الحال في سائر شؤونهم، كالصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وثناؤهم عليهم، وإقرارهم بفضلهم ومعرفة مكانتهم[6]، فضلاً عن تلك المئات من الأقوال المروية عن أهل البيت عليهم السلام التي توافق ما عليه سائر المسلمين من عقائد.
فأمام عجزهم عن تغيير هذا الواقع لم يكن من بد لهم سوى اللجوء إلى حيلة التقية، فقالوا مثلاً: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان في تقية على عهد الثلاثة[7]؛ لأنهم وجدوا أن أفعاله وأقواله تتعارض مع ما يزعمون.
ولما آل الأمر إليه بعد مقتل ذي النورين رضي الله عنهم - وكان الأمر - أيضاً - خلافاً لمدعى القوم - قالوا: إن الأمير عليه السلام لما جلس على سرير الخلافة لم يتمكن من إظهار ذلك القرآن - غير المحرف بزعمهم- وإخفاء هذا؛ لما فيه من إظهار الشنعة على من سبقه، كما لم يقدر على النهي عن صلاة الضحى، وكما لم يقدر على إجراء المتعتين متعة الحج ومتعة النساء، وكما لم يقدر على عزل شريح عن القضاة ومعاوية عن الإمارة[8].
◘ فكما ترى، فإن الواقع يختلف تماماً عن عقائد القوم، فكان لزاماً على هؤلاء أن يجدوا المخرج من هذا المأزق الذي يتعارض مع مزاعمهم المذكورة، فكان أن وضعوا عقيدة التقية بالصورة التي بيناها كمخرج لصرف جميع تلك النصوص وغيرها التي تصب في اتجاه التوفيق بين الشيعة وسائر المسلمين عن ظاهرها، وهوّلوا من شأن هذه العقيدة كما مر، ورهّبوا من تركها حتى يخلقوا بيئة مواتية يتحركون من خلالها إلى تحقيق مقاصدهم التي تلقفها الكثير من طلاب الدنيا عند القوم عبر التاريخ، فأصلوها وجعلوها من أركان الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها، حتى جعلوها تسعة أعشار الدين، وضيقوا الأمر على المخلصين من أتباع المذهب الذين حاولوا تنقيته مما شابه من ترهات وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان كما سترى، وبهذا ضمنوا إبقاء الطائفة الشيعية بمنأى عن سائر فرق المسلمين إلى أبد الآبدين.
[1] قال: ولا فرق في التقية الاضطرارية بين كون التقية عن أمراء العامة وقضاتهم أو عن الكفار أو عن سلاطين الشيعة لإطلاق حديث الرفع. انظر: الخلل في الصلاة، للخميني (6).
[2] رياض المسائل، لعلي الطباطبائي (1/24).
[3] القواعد الفقهية لناصر مكارم الشيرازي (1/406).
[4] القواعد الفقهية لناصر مكارم الشيرازي (1/407).
[5] فرق الشيعة للنوبختي (64).
[6] راجع تفصيل كل هذا في كتابنا: (هداية المرتاب إلى فضائل الآل والأصحاب)، من سلسلة: الحقائق الغائبة.
[7] الإرشاد للمفيد (12) بحار الأنوار للمجلسي (42/227) روضة الواعظين (138)، تاج المواليد، للطبرسي (15)، شرح اللمعة، للشهيد الثاني (9/216).
[8] الأنوار النعمانية (2/362)، وانظر أيضاً: السراج الوهاج، للفاضل القطيفي (89، 92، 110).