من المسائل التي شغلت الأمة الإسلامية عبر القرون، ودار حولها الجدل بين أهل الحق وأهل الأهواء، مسألة نكاح المتعة التي اتخذتها بعض الفرق الضالة، وفي مقدمتها الفرقة الإمامية الاثنا عشرية، شعارًا من شعارات دينها المبتدع، حتى جعلوها عبادة وقربة، مع أن النبي ﷺ نهى عنها نهيًا صريحًا مؤكدًا إلى يوم القيامة.
وقد استدلوا بأوهام من الروايات وتأويلات باطلة، زعموا أنها تُجيز ما حرّم الله ورسوله، فجعلوا ما هو سفاح في الشرع حلالًا باسم المتعة، مخالفين في ذلك صريح القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين.
إن أصل خرافة المتعة عند هؤلاء نشأ من تفسيرهم المنحرف لمرحلة من مراحل التشريع؛ إذ كانت المتعة مباحة في صدر الإسلام لحاجة المسافرين، ثم نُسِخَ حُكمها بحديث النبي ﷺ:
«إني كنتُ أذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّمها إلى يوم القيامة« (رواه مسلم في صحيحه).
ومع هذا النسخ الواضح، تمسك الضالون بظاهر بعض النصوص المنسوخة، فبنوا عليها عقيدة تُخالف مقاصد الشريعة، وتطعن في طهارة المرأة المسلمة، وتُحلّ ما أجمع الصحابة على تحريمه.
ولما كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه من فقهاء الصحابة الذين كان لهم اجتهادٌ في أول الأمر في شأن المتعة، استغلّ بعض هؤلاء هذا الاجتهاد لتمرير باطلهم، متجاهلين رجوعه عن قوله كما ثبت عنه في آخر حياته.
وفي هذا السياق، جاءت المناظرة التاريخية التي جرت بين ابن عباس وعبد الله بن الزبير، والتي نقلها المؤرخون الأوائل كالـمسعودي وابن أبي الحديد، لتكشف حقيقة الخلاف، وتبرهن أن مراد ابن عباس بالمتعة في كلامه لم يكن متعة النساء، بل متعة الحج، كما نص على ذلك المسعودي نفسه.
ومن هنا، فإن دراسة هذه الرواية وردّ التحريف عنها يُعدّ من أبواب الدفاع عن السنة والتاريخ الإسلامي، وبيان زيف دعاوى الفرق الضالة التي تُقيم دينها على التأويل الباطل والتحريف المتعمد.
جاء في مروج الذهب للمسعودي (1/383): |
[حدثنا ابن عمار، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني ابن عائشة والعتبي جميعاً عن أبويهما، وألفاظُهما متقاربة، قالا: خطب ابن الزبير فقال:
ما بال أقوام يفتون في المتعة، وينتقصون حَوَارِيّ الرسول وأم المؤمنين عائشة، ما بالهم أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم، يعرِّض بابن عباس.
فقال ابن عباس: يا غلام، اصمدني صَمْدَه.
فقال: يا ابن الزبير:
قد أنصف القارة مَنْ راماها
إنا إذا ما فِئَة نَلقَاها
نَرُدُّ أولاها على أخراها
مختارات من مقالات السقيفة: |
ما جاء في كتب الرافضة فيما يتعلق بالقراءات حديث ابن عباس والخُمس بين الفهم الصحيح والتأويل الخاطئ شبهة حديث «إنها لك أُقيمت»–روايات صلاة عيسى خلف المهدي |
أما قولك في المتعة فسل أمك تخبرك، فإن أول متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك (يريد مُتْعَةَ الحج).
وأما قولك أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين، وبنا ضُرب عليها الحجاب.
وأما قولك حَوَاريّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقد لقيتُ أباك في الزَّحْف وأنا مع إمام هُدى، فأن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنا.]
فانقطع ابن الزبير ودخل على أمه أسماء، فأخبرها، فقالت: صدق.
وقد أشار بعض الباحثين إلى أن من نقل هذا النص من المسعودي لم يرجع إلى الأصل، بل نقل صورة من قاموس الرجال (الجزء السادس، ص 352).
ثم علّق قائلًا: "حتى إنها في قاموس التستري عن مروج المسعودي تتحدث عن متعة الحج، فلا مهرب: الموضوع محسوم."
أما ما نقله ابن أبي الحديد في ترجمة ابن الزبير، فجاء فيه: |
((أن ابن الزبير قال في خطبته على المنبر: وإن ها هنا رجلًا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، يزعم أن متعة النساء حلال من الله ورسوله، يفتي في القملة والنملة، وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس وترك المسلمين بها يرتضخون النوى! وكيف ألومه في ذلك وقد قاتل أم المؤمنين؟...
قال ابن عباس: وأما حملي المال فإنه كان مالًا جبيناه، وأعطينا كل ذي حق حقه، وبقيت بقية دون حقنا في كتاب الله، فأخذنا بحقنا.
وأما المتعة: فاسأل أمك أسماء عن بردي عوسجة...
ثم عقّب الباحث قائلًا: |
إن هذا الخبر مرسل بلا سند، وقد نقله المسعودي دون تلك الإضافات التي وردت في نص ابن أبي الحديد، بل تضمن نقل ابن أبي الحديد ما يشهد ببطلانه؛ إذ إن أم ابن الزبير (أسماء بنت أبي بكر) لم تكن متعةً للزبير، كما بيّن المؤرخون.
وقد روى المسعودي نفسه عن ابن عائشة والعتبي ما نصه: |
((أنه خطب ابن الزبير فقال: ما بال أقوام يفتون في المتعة وينتقصون حواري الرسول وأم المؤمنين عائشة، ما بالهم أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم! - يعرض بابن عباس - فقال: يا غلام، اصمدني صمده. فقال: يا ابن الزبير! أما قولك في المتعة، فسل أمك تخبرك، فإن أول مجمرة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك. وأما قولك: حواري رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد لقيت أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى، فإن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنا... الخبر)).
ثم قال المسعودي معلقًا:
"تنازع الناس في ذلك، فمنهم من رأى أنه عنى متعة النساء، ومنهم من رأى أنه أراد متعة الحج، لأن الزبير تزوج أسماء بكرًا في الإسلام، زوّجه إياها أبو بكر علنًا، فكيف تكون متعة النساء؟
وهذا الترجيح الأخير من المسعودي هو الأظهر؛ إذ يؤيده قوله في الرواية الأصلية: (يريد متعة الحج)، كما أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها كانت معروفة بعفافها وشرفها، ولم يثبت قط أنها كانت موضع تهمة أو ريبة، فضلًا عن أن زواجها من الزبير بن العوام تم في أوائل الإسلام زواجًا شرعيًا معلنًا.
وبذلك يظهر أن القصة – على ما فيها من صحة وضعف – لا تدل على ما ذهب إليه بعضهم من أنها تتعلق بمتعة النساء، بل إن ظاهر الرواية يدل على أن ابن عباس قصد بها متعة الحج التي كانت من أعمال المناسك المعروفة.
أما نص ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، فهو مرسل لا سند له، وفيه زيادات غير موجودة في أصل الرواية، مما يرجح أن النقل عن المسعودي هو الأصح والأقدم.
الخلاصة: |
تُظهر المقارنة بين نص مروج الذهب للمسعودي ونقل ابن أبي الحديد أن الرواية الأولى هي الأوثق من حيث السند والمعنى، وأن المقصود بلفظ المتعة في كلام ابن عباس هو متعة الحج لا متعة النساء، بدليل تصريح المسعودي نفسه بذلك، وبدليل واقع زواج الزبير من أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
وبذلك يتبين أن الجدل في الرواية ناشئ عن اختلاف في الفهم والنقل، لا عن أصل الحدث التاريخي نفسه.
المصادر: |
1) المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، الجزء الأول، ص 383.
2) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، الجزء التاسع عشر.
3) التستري، قاموس الرجال، الجزء السادس، ص 352.