من أعظم ما ابتُليت به الأمة في عصورها المتأخرة ظهورُ فرقٍ ضالّةٍ نسبت إلى نفسها العلم والدين، وادّعت أن لديها من الأسرار والمعارف ما لم يُبلِّغه النبي ﷺ لأحدٍ غيرها، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الزعم بأن أئمتهم ورثوا عن النبي ﷺ علم الغيب والشرائع تفصيلًا! وهذه الدعوى الباطلة لا تقوم على برهانٍ من كتابٍ ولا سنة، بل تهدم أصول الدين من أساسها، إذ تجعل النبي ﷺ كاتمًا للعلم، مخالفًا لأمر الله الذي أمره بالتبيين والبلاغ المبين.

وفي هذا المقال نعرض بالتفصيل أوجه بطلان هذه الخرافة، ونردّ عليها بالعقل والنقل، مبينين أن دعوى وراثة الأئمة للعلم النبوي أو علم الغيب لا تستند إلى دليلٍ صحيحٍ، وأنها مناقضة لصريح القرآن والسنة وإجماع الأمة.

نص المقال:

إنّ القول بأنّ الأئمة ورثوا كلّ العلوم عن رسول الله ﷺ، هو كذبٌ صريحٌ على النبي الكريم، وباطلٌ من وجوهٍ كثيرة، منها ما يلي:

أولًا: الرسول ﷺ لا يعلم كلّ ما سيقع بعده من أمور الدنيا والآخرة ففي الحديث الصحيح المشهور في "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"، قال النبي ﷺ في شأن أصحابه عند الحوض:

«إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»

وهذا نصٌّ صريحٌ في أن النبي ﷺ لا يعلم الغيب المطلق، إذ لو علم أن بعض أمته سيرتدّون، لما قال "إنك لا تدري"، فكيف يُزعم أن غيره من البشر يعلم الغيب، وقد حجب الله عن نبيه ذلك إلا ما أوحاه إليه؟!

ثانيًا: إنْ كان العلم الذي ورثوه خاصًا بالأئمة دون غيرهم، فذلك يقتضي أمورًا باطلة

1- أن النبي ﷺ لم يبلّغ الأمة العلم كاملاً، وحصره في أشخاصٍ معينين، وهذا يخالف أمر الله تعالى له بالتبليغ، حيث قال سبحانه:

﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: الآية 44)

كما قال جل شأنه في التحذير من كتمان العلم:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ، أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (البقرة: الآية 159)

فكيف يُعقل أن يُؤمر النبي ﷺ بالبلاغ العام، ثم يُقال إنه خصّ بالعلم قلةً من الناس؟!

2- أن العصمة المزعومة للأئمة تسقط بهذا المنطق، لأنهم يختلفون فيما بينهم في بعض المسائل، ولو كانوا يتلقون وحياً معصوماً كما يُزعم، لما تناقضوا في أحكامٍ واحدةٍ، إذ التناقض من صفات البشر لا الوحي.

3- أنّ الله أمر النبي ﷺ بالتبيين لجميع الناس، لا لفئةٍ مخصوصة، فلو حُصر العلم في عليٍّ أو في ذرّيته، لكان في ذلك مخالفةٌ صريحةٌ لقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ (النور: الآية 54) 

ثالثًا: وإن قيل إن علم النبي ﷺ متاحٌ لكلّ الناس، لزم منه باطلٌ آخر

1- أن جميع الناس يعلمون الغيب، ومنهم حذيفة بن اليمان الذي كان يعلم أسماء المنافقين، ومع ذلك لم يُقل إنه يعلم الغيب المطلق، بل علم ما أعلمه الله به فقط.

2- كيف يُستثنى الإمام علي رضي الله عنه من بين الصحابة في هذا الباب؟
ولِمَ لم يكتب الكليني وغيره من أصحاب هذه الفرقة بابًا بعنوان “علم الصحابة بالغيب” إن كانوا يعتقدون أن العلم يُورث كما يورث المال؟!

3- والأعجب من ذلك أن الإمام علي رضي الله عنه نفسه سُئل عن حكم المذي، فقال: «كنت رجلًا مذّاءً، فأمرت المقداد أن يسأل النبي ﷺ، فسأله فقال: فيه الوضوء»
رواه البخاري.

4- فلو كان عليٌّ يعلم الغيب أو يملك العلم النبوي المطلق كما يزعمون، لما احتاج أن يسأل عن مثل هذا الحكم الفقهي البسيط.

النتيجة والخلاصة:

إنّ دعوى أنّ الأئمة ورثوا علوم النبي ﷺ أو علم الغيب، باطلة شرعًا وعقلاً، ومخالفةٌ لنصوص القرآن والسنة، ولإجماع المسلمين عبر القرون.

فالعلم لا يُورث بالدم ولا بالنسب، وإنما يُنال بالإيمان والعمل والاتباع، كما قال تعالى:

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: الآية 28)

فالأنبياء ورثة العلم، والعلماء ورثة الأنبياء، وليس في ذلك حصرٌ لأحدٍ أو تمييزٌ بالنسب أو العِرق، وإنما التفضيل بالتقوى، كما قال الله عز وجل:

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: الآية 13)

المصادر:

صحيح البخاري، كتاب العلم.

صحيح مسلم، كتاب الفضائل.

تفسير الطبري، ج10.

تفسير ابن كثير، ج6.

الكافي للكليني، باب الحجة.

فتح الباري لابن حجر، ج11.

شرح النووي على مسلم، ج14.