من المسائل التي ارتبطت بمذهب الشيعة الإمامية عبر التاريخ مسألة التقية، حيث اعتبروها وسيلة للحفاظ على كيانهم العقدي ومعتقداتهم في مواجهة ما وصفوه بظلم السلطات السياسية من الأمويين والعباسيين والعثمانيين. وقد تناقل كبار علمائهم أقوالاً تبرر اللجوء إليها وتسوغها، حتى أصبحت سمة ملازمة للفكر الشيعي، بل أداة لإخفاء العقائد الحقيقية عن الآخرين. غير أن هذه الدعوى تواجه تناقضات واضحة، إذ يزعمون أن التقية كانت ضرورة بسبب القمع السياسي، بينما يستعملونها أيضاً في مخاطبة إخوانهم من المسلمين، وهو ما يثير تساؤلات عميقة حول حقيقة هذا الأصل في الفكر الشيعي.

يقول الأردبيلي:

إن ظروف التقية الشديدة التي عاشها الأئمة عليهم السلام مما جعلهم يضطرون في بعض الأحايين إلى اتخاذ مواقف قولية أو عملية مخالفة لآرائهم؛ انسجاماً مع الوضع السائد وحفاظاً على وجود الشريعة ودعاتها[1].

من مقالات السقيفة:

شبهة حديث أن النبي موسى قام عريانا يجر ثوبه

شبهة توسل آدم بالنبي ﷺ

عقيدة أهل البيت في النار: دار الهوان والشفاعة والرحمة

ويقول الشهيد الأول: وقد كانت الأئمة في زمن تقية واستتار من مخالفيهم، فكثيراً ما يجيبون السائل على وفق معتقده، أو معتقد بعض الحاضرين، أو بعض من عساه يصل إليه من المناوئين[2].

ويقول رسول جعفريان:

 إن الضغوط السياسية كانت تمارس ضد الشيعة على يد بني أمية وبني العباس، حيث لم يكن يسمح لهم بالتعبير عن وجودهم[3].

وأضاف محمد جواد مغنية بأن من هذا الضغط التزم الشيعة طريق التقية، ومعناها عندهم الحيطة والحذر من القوي الظالم الذي يأخذ المتهم دون أن يحاكمه ويأذن له بالدفاع عن نفسه، واليوم لا أثر للتقية عند الشيعة، حيث لا خوف عليهم ولا هم يرهبون[4].

وقال مغنية:

إن التقية كانت عند الشيعة حيث كان العهد البائد، عهد الضغط والطغيان، أما اليوم - حيث لا تعرض للظلم في الجهر بالتشيع - فقد أصبحت التقية في خبر كان[5].

وأضاف غيره: إن السر يكمن في الأسس الفكرية للخط الشيعي الذي ينتهجه مذهب أهل البيت من حكام الجور والظلم، والذي يشكل طرفاً مضاداً للسلطة الطاغوتية الحاكمة التي نزت على الأمة بالقهر والغلبة وتسلطت على رقاب الناس بالحديد والنار، وهذا الموقف بنفسه يشكل نظرة عدائية لدى الحكام، فيفرغون جام غضبهم وحقدهم على الشيعة؛ لأنهم وحدهم الذين يكمن فيهم الخطر على ملكهم ودولتهم، فقد كان الحكام من الأمويين والعباسيين - بل العثمانيين - يتربصون بالشيعي لإهدار دمه، فقد كان الكفر والزندقة أخف بنظرهم من شيعة آل محمد[6].

وقال شرف الدين الموسوي:

 ...ولا سيما الدولة الأموية فقد كان ملوكها وعمالها وعلماؤها ورؤساؤها والعامة بأجمعها لا يتحملون ولا يطيقون ذكر الشيعة، وكانت الكلمة متفقة على سحقهم ومحقهم، فلولا خلودهم إلى التقية ما بقيت منهم هذه البقية، فأي مسلم أو غير مسلم يرتاب في جوازها لهم؟![7]

ويقول السبحاني:

 ... الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم وأبناء دينهم إنما هو الخوف من السلطات الغاشمة، فلو لم يكن هناك من عصر الأمويين ثم العباسيين والعثمانيين أي ضغط على الشيعة كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها، وإن الشيعة تتقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتقيهم السني، غير أن الشيعي - ولأسباب لا تخفى - يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم، لا قصور في الشيعي، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك؛ لأنه يدرك أن الفتك والقتل مصيره إذا صرح بمعتقده الذي هو موافق لأصول الشرع الإسلامي وعقائده[8].

من مقالات السقيفة:

الاحتفال بالمولد النبوي في ضوء الكتاب والسنة

تفسير قوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ لغة ومنهج أهل السنة

تقسيم التوحيد عند الرافضة

وأضاف: ومن المعلوم أن الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة، أو أمة أخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم، وترك مظاهرتهم، وستر عقائدهم، وأعمالهم المختصة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا، ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم[9].

ويقول: إن كثيراً من إخوانهم - أي: السنة - كانوا أداة طيعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم، فكانوا يؤلبون العامة من أهل السنة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة - بل لكل من يملك شيئاً من العقل - وسيلة إلا اللجوء إلى التقية، أو رفع اليد عن المبادئ المقدسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله[10].

ويناقض نفسه في مكان آخر فيقول: إن تاريخ الخلفاء الأمويين والعباسيين زاخر بالظلم والعسف والحيف والجور، ففي تلك الأيام لم يكن الشيعة وحدهم هم المطرودون والمحجور عليهم بسبب إظهار عقائدهم، بل سلك أغلب محدثي أهل السُنة في عصر المأمون - أيضاً - مسلك التقية في محنة «خلق القرآن»، ولم يخالف المأمون في خلق القرآن وحدوثه بعد صدور المرسوم الخليفي العام سوى شخص واحد، وقصته معروفة في التاريخ، وعامة المحدثين تظاهروا بالوفاق تقية[11].

ولا يختلف بقية القوم عن تكرار هذه المزاعم لتبرير اشتهار القوم بالتقية.

 

[1] مجمع الفائدة للأردبيلي (1/11).

[2] ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة للشهيد الأول (1/60).

[3] الحياة الفكرية والسياسية للائمة أهل البيت لرسول جعفريان (1/285).

[4] الشيعة في الميزان لمحمد جواد مغنيه (345).

[5] الشيعة في الميزان، لمحمد جواد مغنية (52).

[6] شبهات حول الشيعة (21).

[7] أجوبة مسائل جار الله، لشرف الدين الموسوي (83).

[8] مع الشيعة الإمامية في عقائدهم لجعفر السبحاني (87).

[9] أضواء على عقائد الشيعة الإمامية لجعفر السبحاني (421)، عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر (84)، بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية لمحسن الخزازي (2/179)، مناظرات في العقائد والأحكام لعبد الله الحسن (2/221 (هـ)).

[10] أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، لجعفر السبحاني (417)، الاعتصام بالكتاب والسنة، لجعفر السبحاني (328).

[11] العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (ع)، لجعفر السبحاني (275).