قصة الغرانيق من أكثر الروايات التي أُثير حولها الجدل في كتب التفسير والتاريخ، حيث زُعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على أصنام المشركين عند تلاوته سورة النجم، ثم تراجع عن ذلك بعد نزول الوحي بتصحيح ما قيل. وقد تصدى علماء الأمة لهذه القصة من قديم، وبينوا بطلانها من جهة النقل والعقل، مؤكدين أنها لم ترد بسند صحيح، ولا رواها ثقة، وأنها من مفتريات الزنادقة. بل عدّها جمهور المحدثين والفقهاء من الأخبار الموضوعة التي لا يجوز نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويكشف تتبع أقوال العلماء أن هذه القصة لم يخرجها أصحاب الصحاح، وأن طرقها كلها ضعيفة أو مرسلة أو منقطعة، مما يثبت أن لا أصل لها في السنة الصحيحة

وقال الكرماني كما نقله المباركفوري في " تحفةالأحوذي " 3/167: ((وما قيل من أنَّ ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحة له عقلاً ولا نقلاً)).

وقال القاضي عياض فيما نقله ابن حجر في " فتح الباري " 8/558 عقيب (4740):

((هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده.. ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية، قال: وقد بَيّنَ البزار أنَّه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله، وأما الكلبيُّ فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه)).

وقال أيضاً فيما نقله المباركفوري في " تحفةالأحوذي " 3/167:

((وأما ما يرويه الأخباريون والمفسرون أنَّ سبب ذلك ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم فباطل لا يصح فيه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل؛ لأنَّ مدح إله غير الله تعالى كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنْ يقوله الشيطان على لسانه، ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك)).

وقال أيضاً فيما نقله القرطبي في "تفسيره" 12/82:

 ((إنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين:

أحدهما: في توهين أصله،

والثاني: على تسليمه.

أما المأخذ الأول: في كفي كأنَّ هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند صحيح سليم متصل ثقة؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، والمتلقفون من الصحف كالصحيح وسقيم.

وأما المأخذ الثاني: فهو مبنيٌ على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته)).

وقال ابن عطية في " تفسيره " 10/305 ط. الفكرو: 1318 ط. ابن حزم:

 ((وهذا الحديث الذي فيه هذه الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ومسلم ولا ذكره في علمي مصنف مشهور)).

وقال ابن خزيمة في ما نقله الشوكاني في " فتح القدير " 3/4623:

((إنَّ هذه القصة منوضع الزنادقة))، وقال ابن كثير في " تفسيره ": 1282: ((ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم)).

فالكل يؤكد عدم صحة هذه القصة، إلا أنَّ الحافظ ابن حجر قال في " الفتح " عقيب 8/558 (4740): ((ومعناهم كلهم في ذلك واحد، وكله اسوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإلا منقطع. لكن كثرة الطرق يدل على أنَّ للقصة أصلاً.

وقال: وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإنَّ الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أنَّ لها أصلاً)).

وقد تعقّبه العلاّمة الكبير أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على جامع الترمذي 2/465 بقوله: ((وقد أخطأ في ذلك خطأ لا نرضاه له، ولكل عالم زلة عفا الله عنه)).